تحدثنا قبل ذلك عن التدين الصراعى، القائم على قاعدة الصراع مع السلطة أو المجتمع أو الطوائف والديانات الأخرى، وذكرنا سمات ذلك النوع من التدين، واليوم نكمل الحديث عن آثار ذلك فى المجال السياسى، حيث شكلت جماعات التدين الصراعى ظاهرة فى العالم العربى والإسلامى، وكانت تتوالد ذاتيا من بعضها البعض، منها من يبدو هادئا معتدلا فى بعض المراحل ثم يتحول إلى العنف، ومنها من يبدأ عنيفا منذ البداية، وقد أرهقت تلك الجماعات مجتمعاتها وأدخلتها فى تقسيمات وصراعات وانشقاقات على أسس دينية ومذهبية وطائفية. ودخلت أغلب هذه المجموعات فى الصراع السياسى باسم الدين، ومن هنا تشكل ما سمى تيار الإسلام السياسى الذى استقطب أعدادا كبيرة من الشباب يتوقون بنية طيبة إلى تحقيق مشروع حضارى إسلامى، وإلى إعادة المجد للإسلام وإلى تحرر المجتمعات الإسلامية من قبضة السيطرة الأجنبية، وقد فرض على هذا الشباب مبدأ السمع والطاعة، بدعوى «الجندية» واستغلت حماسته وقودا فى الصراعات السياسية وصراعات المصالح باسم الدين، وزج به فى مواجهات مع السلطة (أى سلطة) ومع فئات الشعب الرافضة للهيمنة والتسلط باسم الدين. وبعض المدافعين عن هذه الجماعات يقول إنهم حموا الدين أثناء المد الشيوعى، وإنهم حافظوا على الهوية الدينية للمجتمع أمام حركات المد العلمانى، وإنهم جعلوا تلك الهوية فى حالة نشاط وتوهج، خاصة مع انطفاء وذبول المؤسسات الدينية الرسمية، وإنهم شكلوا معارضة قوية للحكام المستبدين، وكانوا هم المعارضة الأقوى والمهددة لهم، وقد يكون بعض ذلك صحيحا، ولكن بجانب ذلك فإن جماعات التدين الصراعى أعطت صورة سلبية عن الدين، ووضعته فى حالة صراع مع السلطة طول الوقت ومع فئات أخرى فى المجتمع، وأعطت المستبدين تكئة ليستمروا فى حكمهم واستبدادهم عقودا طويلة وهم يستخدمون جماعات التدين الصراعى كفزاعة للداخل والخارج، ويصيغون القوانين وبها الكثير من المحاذير والقيود لكى يغلقوا الباب أمام محاولات تسلل تلك الجماعات إلى السلطة، وفرضوا الطوارئ سنوات طويلة ليتمكنوا من السيطرة عليهم. أى إن المجتمع كله كان يدفع ثمنا باهظا لذلك الصراع العبثى بين السلطة المستبدة وجماعات التدين الصراعى الطامحة إلى الحكم والطامعة فيه طول الوقت. وقد رفعت تلك الجماعات شعارات سياسية مختلطة بالدين، ومارست الحشد السياسى باسم الدين، بدعوى أن الدين يشمل كل شىء فى الحياة بما فيها السياسة، ولكنها فى الحقيقة كانت تغرق فى الممارسات والأطماع والصراعات السياسية طول الوقت تحت غلالة رقيقة من التدين، مما أحدث التباسات شديدة فى المجتمع وصراعات عبثية على الهوية والتوجهات، استنزفت قوى المجتمع وأخذته بعيدا عن مشاكله وهمومه الحقيقية وحرمته من جهود التنمية ورسخت لانتشار حالات من ادعاء التدين تغطى على طبقات فساد متراكمة لدى الفرد والمجتمع. وللإنصاف فإن بعض هذه الجماعات كانت تقوم ببعض الجهود فى العمل الخيرى والتربوى والدعوى فى وقت غاب فيه دور الدولة عن الفئات الفقيرة والمهمشة، وهذه الجهود خلقت قاعدة جماهيرية لتلك الجماعات فى وقت من الأوقات، ولكن هذه القاعدة ضعفت كثيرا فى الشهور الأخيرة مع غرق تلك الجماعات فى الصراع السياسى وما ارتكبته من أخطاء كبيرة. وحالة التدين الصراعى ينشأ عنها مجموعة من الاستدعاءات نذكر منها: 1 - استدعاء الكراهية، حين يكتشف الناس حقيقة ذلك النوع من التدين أو يتوجسون من خطره أو يقلقون من غموضه وسريته أو يعانون من السلوك البراجماتى لأصحابه. 2 - استدعاء المحنة، بأن يؤدى السلوك الشخصى أو الجماعى لإيقاع الأذى والمطاردة والمحاصرة والسجن والاعتقال وربما القتل لأصحاب التدين الصراعى، وهم يستلذون المحن أحيانا ويوظفونها لمزيد من التماسك التنظيمى والمكاسب السياسية، ويبررونها على أنهم أبرار وأطهار فى مواجهة كفار أو ضالين أو ظالمين. 3 - استدعاء المظلومية والاضطهاد، حيث تتكرر المحن والمصائب نتيجة تكرار سلوكيات التدين الصراعى، فتتشكل منظومة من مشاعر الظلم والاضطهاد لدى الشخص أو المجموعة المضطهدة، كما تتشكل علاقة سلبية بينهم وبين سائر المجتمع المحيط بهم. 4 - استدعاء الوصم والعنصرية، بمعنى أن تتشكل صورة ذهنية منفرة، ويحمل الشخص أو المجموعة وصمة تجعله محل ازدراء وكراهية من المجتمع. وقد تلعب وسائل الإعلام بنفسها أو مدفوعة من السلطة دورا فى شيطنة وتشويه أصحاب التدين الصراعى كراهية لهم ونكاية فيهم. والسؤال هنا: هل تتم فى هذه الظروف مراجعة فكرة التدين الصراعى من جذورها؟ أم يدخل أصحابها فى دورات جديدة من استدعاءات القهر والاضطهاد والمظلومية بلا نهاية؟ أم يمارسون انتحارا ذاتيا بالاستمرار فى الصراع والمواجهة؟؟