يعانى المستضعفون فى مصر من اشتداد حدة الإفقار الذى ينتجه الحكم التسلطى الفاسد فى سياق نسق من الاقتصاد غير المنتج التابع للخارج، حيث يقعون بين شقى رحى الغلاء الجامح من ناحية، والثبات النسبى للأجور والمرتبات، والمعاشات بالطبع، من ناحية أخرى. ولسعر صرف الدولار مقابل الجنيه دور مهم فى إشعال لهيب الأسعار. ولهذا فإن ارتفاع سعر الدولار يسهم فى جموح متصاعد الأسعار، ومن ثم تفاقم الظلم الاجتماعى. من يضطر إلى التعامل بالدولار يعلم أن المصرف الذى يتعامل معه لا يتيح له شراء دولارات، ومحال الصرافة لا تبيع له الدولار بالسعر الرسمى الذى يعلنه البنك المركزى يومياً، وكأن له قيمة فى التعامل فى الأسواق. فى حين أن السعر الفعلى تحدده قوى العرض والطلب خارج النظام المصرفى كله، مما يجعل سعر محال الصرافة هو سعر الصرف الرسمى فى الاقتصاد المصرى. وبسبب استبعاد المصارف من التعامل بالعملات الأجنبية، ونتيجة لقلة المعروض من العملات الأجنبية، فقد ظل سعر الدولار يرتفع خارج القطاع المصرفى باطراد، بينما كان السعر الوهمى للبنك المركزى ينخفض، معطياً انطباعاً مضللاً بتحسن ذلك الجانب من الاقتصاد المصرى. وهكذا فى نهايات شهر نوفمبر كان الدولار يباع فى محال الصرافة بزيادة تقارب الخمسين قرشاً عن السعر الرسمى، ولا عزاء للحكومة أو البنك المركزى أو سعره الوهمى. ولهذه الحقيقة الاقتصادية آثار مهمة على الاقتصاد وعلى أحوال معيشة الناس. فقيمة العملة الوطنية فى مواجهة العملات الأخرى ليست فقط رمزاً معنوياً مهماً للبلد ولاقتصاده، ولكنها محدد مهم لأقدار الاقتصاد والشعب والسلطة الحاكمة. والتاريخ حافل بسلطات حكم سقطت تحت وقع انهيار العملة الوطنية والتضخم الجامح الذى يرتبط به عادة، خصوصاً فى أمريكا اللاتينية، حيث كانت المحال أحياناً تتوقف عن وضع أسعار على السلع، عجزاً عن ملاحقة تصاعدها الفلكى، فتكتفى بوضع مؤشر رقمى عليها، أو سعرها بعملة مرجعية ثابتة نسبياً، مثل الدولار، فى ظاهرة تُعرف فى الاقتصاد بالدولرة، أى قبول الدولار فى التداول بجوار العملة الوطنية أو حلوله محلها، مما يُنهى عملياً أى ادعاء باستقلال الاقتصاد الوطنى من وجهة نظر مهمة، وفى الجوار العربى لدينا حالة لبنان، نموذجاً على الدولرة التامة. ولا يخفى على فطن ملم بأوليات الاقتصاد أن الاقتصاد المصرى وأقدار المصريين ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمعدل تبادل الجنيه بالعملات الأجنبية، خصوصاً الدولار الأمريكى. فمن الكوارث التى جرها الحكم التسلطى على مصر وشعبها أن حوّل الاقتصاد إلى سلسلة مفككة من الأسواق المنفلتة والاحتكارية التابعة تبعية مفرطة لاقتصادات خارجية أساساً فى الغرب، من دون قدرة إنتاجية قوية ومتنامية تسندها. ومن ثم، تتاجر الأسواق فى السلع المستوردة أو المنتجة محلياً، ولكن تلك الأخيرة تنتج محلياً باستعمال نسبة كبيرة من قيمتها النهائية من معدات ومواد خام ومنتجات وسيطة أخرى مستوردة بدورها من الخارج. وهكذا يعنى انخفاض الجنيه مقابل العملات الأجنبية ارتفاعاً مقابلاً ومباشراً فى أسعار جميع السلع والخدمات المتداولة فى مصر. وبسبب جشع التجار فى غياب حكومة قادرة على الضبط الفعّال للأسواق، ترتفع أسعار السلع بمعدلات أعلى من ارتفاع قيمة العملات الأجنبية، وليس من ضمان لأن تعود الأسعار للانخفاض إذا تراجع سعر الدولار. ومن ثم، يُذكى انخفاض قيمة العملة المحلية متصاعداً تضخمياً شره تلتهب فيه أسعار السلع والخدمات. ويكتوى بنار الغلاء الفاحش أساساً أصحاب الدخول الثابتة من أجور ومعاشات. ويتفاقم جحيم عذابهم إن كانت الأجور والمعاشات متدنية أصلاً، مما يعنى تدهوراً حاداً فى مستوى معيشتهم المنخفض أصلاً. إذن التدهور الجسيم فى قيمة العملة المحلية فى الاقتصادات المرتبطة بالخارج ارتباطاً حرجاً يُفضى إلى تبعات كارثية على سلامة بنية الاقتصاد ومستوى معيشة المواطنين. ولا عجب إذن أن تهاوى قيمة العملة المحلية وما يليه من كوارث يسهم فى إسقاط أنظمة الحكم التى لم تقدر على صيانة الاقتصاد ومصالح مواطنيها. وحيث يعانى شعب مصر من أمراض تفشى البطالة واستشراء الفقر المزمنة ابتداءً، فالنتيجة الحتمية لهذا الفشل الاقتصادى الفاحش والمتعاظم هى استشراء الفقر والظلم الاجتماعى. ويجب ألا ننسى أن هذه الأمراض كانت وراء المسببات الموضوعية لشبوب الموجة الأولى للثورة الشعبية المجيدة فى يناير 2011، وتاليتها فى منتصف 2013، بالإضافة إلى تقييد الحقوق والحريات المدنية والسياسية والبطش البوليسى بالطبع. وحيث لم تترفع السلطة المؤقتة الحاكمة عن النقيصتين الأخيرتين، وتتكاثر الدلائل على تصميم هذه الحكومة المؤقتة على تقييد حركات الاحتجاج الشعبى المعارضة بمشروعات تقييد حقوق التجمع والتظاهر السلمى، بينما تبدو أشد تعاطفاً مع رموز نظام الحكم ونسق الاقتصاد الذى قامت الثورة الشعبية لإسقاطه ولم تنجح فى ذلك بعد، بسبب إصرار السلطة على الإبقاء على جوهر هذا النظام المقيت، بمؤسساته وأساليبه، وحتى بعض شخوصه، فعالة ومؤثرة. قد نتفهم تعثّر الجانب السياسى من مهمات الحكومة المؤقتة بسبب قلة دراية أعضائها بالحكم، خصوصاً فى مرحلة سياسية دقيقة كهذه التى تعيشها مصر الآن، إلا أن تعثر الاقتصاد لا يغتفر للوزارة القائمة. فالمؤهلات الرئيسية لرئيس الوزارة اقتصادية، والمفترض أنه خبير بالشئون النقدية والمالية تحديداً. ومن ثم فليس من مبرر لأن تستمر مهزلة سعر الصرف هذه طويلاً. إن إعادة التعامل بالنقد الأجنبى إلى المصارف وتخفيض سعر الصرف الفعلى ليساوى ذلك المعلن من البنك المركزى، بالتوازى مع ضبط الأسواق والمراقبة الفعالة للأسعار فى جميع الأسواق، سيسهم فى كبح جماح الأسعار. ومن ثم تحقق هذه الحكومة المؤقتة إنجازاً فى حماية العدالة الاجتماعية وسلامة البنية الاقتصادية عموماً، وتقلل من الغضب الشعبى. فكل هذا الفشل فى مجالى الاقتصاد والعدالة الاجتماعية، إضافة إلى الفشل فى المجال السياسى يضع الحكومة المؤقتة هدفاً للإسقاط من خلال الموجة التالية من الثورة الشعبية. وبمعدلات القصور الحالية لهذه الحكومة فلن يطول الانتظار. ولا يلوموا إلا أنفسهم!