فى منزل صغير يطل على ميدان بيت القاضى بحى الجمالية بالقاهرة فتح الطفل عينيه للمرة الأولى. هنا فى هذا الحى العتيق سوف يقضى الطفل سنوات طفولته متنقلاً ما بين الحوارى والأزقة، ومن مشربية خشبية تحتل جزءاً من واجهة المنزل سوف يتابع الطفل الحياة فى الخارج، ما بين مواكب الصوفيين، ومعارك الفتوات، ومنظر العوالم، ومظاهرات ثورة 19 سوف تمضى الأيام. سوف يحفظ الطفل أماكن المساجد الأثرية، والأقبية التاريخية، والبيوت القديمة، والشوارع التى تعاقبت عليها الأحداث، سوف يعى ذلك جيداً قبل أن تتاح له الفرصة فينقله جميعاً إلى الناس، وقتها فقط سوف يعرف العالم قصة حميدة التى هربت من زقاق المدق، وعائلة أحمد عبدالجواد التى خرجت من شارع بين القصرين، وأحمد أفندى عاكف، ساكن خان الخليلى، وسيرة عاشور الناجى مع الحرافيش، وحكايات أولاد حارتنا التى فتحت عليه أبواب جهنم، هذا بالطبع بعد أن يتحول الطفل الصغير الذى لم يعد صغيراً إلى أديب كبير يعرفه العالم باسم نجيب محفوظ. تحل ذكرى ميلاد الأديب العالمى، صاحب جائزة نوبل، فيما القاهرة لا تزال تئن، هى مدينته التى خلدها فى عشرات القصص والروايات، كتب عنها كما لم يكتب أديب عن مدينة من قبل، تحولت شوارعها وحواريها إلى أيقونات أدبية، فيما تعيش شخوص رواياته وكأنها شخصيات من لحم ودم، لا فارق بين الحقيقة والخيال، طالما كتب عنها الرجل، ومنحها الحق فى أن تظهر على أوراقه الأدبية. لم ير نجيب فى نفسه أديباً فى البداية، كان يرى الأدب شيئاً ثانوياً، درس الفلسفة فى كلية الآداب جامعة فؤاد الأول، ثم عين موظفاً حكومياً بعد أن ضاعت منه فرصة البعثة إلى الخارج، ومع وقت التفرغ الطويل الذى منحته له الوظيفة، وجو القاهرة الهادئ فى ثلاثينات القرن الماضى، وضع الموظف الشاب أولى مجموعاته القصصية التى منحها عنوان «همس الجنون»، تبعها بروايته التاريخية الأولى «كفاح طيبة»، ثم «عبث الأقدار»، قبل أن ينشر روايته الشهيرة «القاهرة 30»، التى كتبها فى البداية تحت عنوان «فضيحة فى القاهرة». لا يحلل محفوظ فى رواياته عالم القاهرة الغامض الساحر فقط، لكنه يمد مشرطه إلى البشر، أولئك الذين يسكنون بيوتها ويرتادون شوارعها، يرصد أحوالهم، ويشرّح سلوكياتهم، ولا يكتفى بذلك، وإنما يتجاوزه إلى التنبؤ بما يقع من أحداث، يفعل ذلك باستمرار فلا يفوته أن يرى تأرجح الأنظمة الحاكمة من المحافظة إلى اليسار ثم اليمين، ثم للا شىء، فى حين يتسلل للمجتمع تطرف دينى يصيبه رذاذه حين يقدم أحد المنتمين لجماعة إسلامية على طعنه بسكين اعتراضاً على روايته أولاد حارتنا، فيستغل فترة ما بعد الإصابة فى وضع آخر أعماله الأدبية «أحلام فترة النقاهة» لتصبح آخر ما سطره قبل أن توافيه المنية فى أغسطس 2006.