من وطن ناضل من أجل الحرية والكرامة جاءت إلى بلادنا مرفوعة الرأس، ممشوقة البدن، عالية القيمة والمقام. اختبأت عن الأنظار فور وصولها لأكثر من شهر استعداداً لحياة جديدة فى بيئة غريبة وأجواء لم تعهدها من قبل. ولحسن حظها أنها لم تأت وحيدة، بل رافقها فى رحلتها الطويلة اثنان من جنسها.. جاءوا جميعاً غرباء على بلاد مهمتهم فيها إضحاك، وإسعاد، وتسلية وأيضاً تثقيف «ولاد البلد» دون أن يدركوا أنهم «ظرفاء» لهذا الحد وأنهم يملكون من الوداعة والرقة والجمال والغرائبية فى شكلهم النادر ما يجذب إليهم الصغير والكبير. خرج أصحابنا للحياة بعد انقضاء مدة «التكيف»، وبدأ عملهم «زرافات» ظرفاء فى حديقة الحيوان ذات الشهرة العالمية الواسعة بالجيزة! برقة بالغة يأكلون العشب وأوراق الأشجار، وبمرونة عضلية يلتقطون «خرطات» الجزر من أيادى الصغار. وهكذا استمر الحال وسط مساحات جغرافية حتمت البقاء داخل أسوار تحيطها صراعات وشماريخ وانفجارات وهتافات ارتعد معها نزلاء الحديقة من الحيوانات المسجونين الذين ربما كانوا يتعجبون من طبيعة غابات جديدة عليهم خارج الأسوار! ولكن القدر لم يمهل زوار الحديقة فرصتهم لمزيد من المتعة ففى يوم هادئ وروتينى معتاد وفى غياب الحرس، ابتعدت واحدة من الزرافات الثلاث عن سماجة واستهزاء وجهل الزوار بطبيعة الحيوان ومشاعرة! وقررت أن تمد رقبتها الممشوقة للمزيد من العلى لتأكل العشب بعيداً ووحدها فانحشرت رقبتها فى السلة المثبتة على شجرة وزهقت روحها. وهكذا ماتت الزرافة، وهكذا نشرت الصحف خبرها وتناول الإعلام موضوعها. كان الهم الأكبر هو ثمنها وليس روحها! وهكذا هو الحال، لا قيمة عندنا إلا بما تساوى من مال. لا مشاعر لها وزن، ولا عاطفة لها قيمة، ولا إنسانية لها اعتبار.. «الزرافة ماتت مش مشكلة المهم ثمنها»، هكذا نشرت إحدى الصحف! الزرافة ماتت لأننا اغتلناها بأنفسنا، ماتت لأننا لم نستوعب معنى وقيمة وجودها مثلما نجهض ونقتل أشياء كثيرة جميلة حولنا. الزرافة ما هى إلا رمز أفضح جوهر أحاسيسنا وانفعالاتنا العاطفية الزائفة!! الحزن على موت زرافة ليس نكتة ولا يجوز معه الاستهزاء أو الاستغراب؛ لأنه ببساطة يعبر عن مدى تحضرنا ورهافة حسنا، العامل المحرك الأساسى لكل شىء فى الوجود، ومع ذلك أعرف أنها قضية ستتلاشى بعد أيام، ربما لأن أحداً لم يقف يطلب تعويضاً عن حياتها! أو يكلف محامياً للدفاع عن حقها! ولكنى أعرف أنها مقياس لوطن يختار إما أن يحيا للحق والكرامة والإنسانية أو للتنكيت والتهريج والاستهتار.. قضية واضحة حتى وإن كان على رأسها حيوان. أحد اجتماعات الحكومة التى ناقشت تطبيق الحد الأدنى للأجور