على قدم وساق.. يقف يوميا موجِها ومراقِبا ومشارِكا فى إفطار الصائمين، ملبيا دعوة رب العزة فى القرآن الكريم «وأما بنعمة ربك فحدث»، فالسخاء والغنى يظهران عليه، سيارات فارهة واقفة بجوار المائدة.. ملابس أنيقة تنم عن توافر «المعلوم».. الطعام والخدمة على أعلى مستوى، العطف واسترضاء الجميع شعور حاضر دائما عليه.. يترجمه عدم رفضه طلب أى سائل، كلها ملاحظات من داخل مائدة الرحمن بالسيدة نفيسة، فى ساحة الانتظار المقابلة لمسجد السيدة، «محمد حامد» كان واقفا أمام السرادق المقام بجانب المقابر التابعة لمنطقة «ترب الغفير»، المحيطة بضريح السيدة. المائدة المكونة من عدة طاولات خشبية متلاصقة وعدد كاف من الكراسى، تسع كل من يقصدها لتناول إفطاره عليها، قاعة كبيرة مغطاة ب«صوان» ملحق بها.. ترابيزات فى الهواء الطلق.. هكذا تكون المائدة المنصوبة بين الأموات، فى هدوء ونشاط واهتمام، يبدأ فريق خدمة الصائمين فى تجهيز المائدة بغسل الترابيزات وطاولات الخشب بالمياه، ثم صفّها بشكل محكم يسع أكبر عدد من ضيوف الرحمن، يجرى الإعداد أمام عينى راعى العمل الخيرى ووفقا لتعليماته فى الصغيرة والكبيرة، المائدة قائمة أيضا لتقديم وجبة السحور. قبل الأذان بساعة تقريبا، المائدة مقاعدها متراصة دون «مفطرين».. أعداد قليلة توالى الحضور: «أنا ست محترمة اسمى أم أحمد.. أولادى فى فرنسا وألمانيا، وجيت أفطر هنا ومعايا أكلى عشان ما أقعدش لوحدى بعد موت بنتى».. صوت سيدة عجوز ترد على شاب من خادمى المائدة يناديها مازحا: «جيتى يا ست أطاطا؟»، فى مجموعات يدخل الصائمون إلى المائدة.. فريق التنظيم يطلب منهم الجلوس بالجزء المغطى حتى اكتمال العدد: «هو النظام يزعل يا جدعان؟».. جملة استنكارية من «هانى» أحد المنظمين، معترضا بها على رفض ثلاثة مسنين الجلوس فى الداخل وفقا لأسبقية الحضور. السيدات يشاركن الرجال الإفطار داخل القاعة المغطاة، ضيوف مائدة «كريمة الدارين» السيدة نفيسة، معظمهم من «العواجيز» والشباب ذوى الملابس البالية.. تبدو عليهم مظاهر الحاجة، شريحة كبيرة من الصائمين «صنايعية» يسكنون بالمنطقة المجاورة، المائدة الوحيدة فى المكان لا يأتيها سكان المقابر إلا قليلا، ويفضلون البقاء فى الخارج تأهبا للحصول على الوجبات الجاهزة التى يوزعها «أهل الخير» أمام المسجد وفى الشارع. كما أنعم عليه بالمال أعطاه الله وفرة فى الجسم، «حامد» مهتم باستقبال الصائمين بنفسه، الفطار «كوب تمر هندى وطبقا أرز باللحمة وفاصوليا.. والحلو قطعة كنافة وعلبة عصير»، بصوت عال يوصى المنظمين: «شوف اللى ناقصله حاجة يابنى واديهاله»، يشاركه الإشراف اثنان يجولان بين أرجاء المائدة، خالد -صنايعى محارة- يتحدث عن صاحب المائدة: «ده راجل لواء.. وكل سنة بييجى يعملها هنا، وبصراحة حد محترم ومش بيكسف حد أبدا»، يختلف معه صائم آخر فى رتبته قائلا: «بيقولوا عليه عميد مش لواء»، متحدثا عن وجبة الفطار يقول صعيدى «ضرير»: «إمبارح كانت الفراخ كويسة قوى.. وكله نعمة من ربنا». دقائق قبل الإذن بالفطر.. تكتمل المائدة ويحرص «حامد» على حمايتها من أطفال البائعين وشحاذى السيدة، يحاولون التسول عليه فيرفض قائلا: «اللى عاوز ييجى يفطر أهلا وسهلا بيه فى المائدة.. نشيله فوق راسنا، لكن وجبات بره لا»، عمال المائدة يشكون من كبار السن وعدم استجابتهم لطريقة التنظيم.