لا أميل إلى أسلوب كتابة المذكرات أو رواية الأحاديث التى تتم فى الغرف المغلقة، لا سيما ما كان منها داخل حدود وأسوار جماعة الإخوان المسلمين، إلا أن واقع الحال يجبرنى على هذه الرواية التى ما زال معظم شهودها من الأحياء بفضل الله؛ ففى منتصف التسعينات، تم القبض على أحد المحامين وكان ينتمى إلى الجماعة الإسلامية.. ونظراً لإصابته بمرض صدرى فلم يتحمل رحمه الله التعذيب وتوفى بعد ساعات من القبض عليه.. وكانت وفاته -رحمه الله- من أثر الكهرباء والتعليق من القدمين، حسب الوصف الذى ساقه تقرير الطب الشرعى، وبالرغم من ثبوت التعذيب بتقرير الطب الشرعى فإن النائب العام، وكان فى ذلك الوقت هو المستشار رجائى العربى، لم يحرك الدعوى الجنائية حتى نامت فى الأدراج كعادة بلاغات التعذيب فى ذلك العصر.. وما زال القاتل حراً ينتظر قصاص الله.. المهم أنى كنت عضواً فى مجلس نقابة المحامين فى ذلك الوقت وأمينا لصندوقها؛ فأبيت، والمحامون معى، أن يمر الحادث دون اعتراض أو غضب؛ فقمنا بتصعيد الاعتراض حتى وصل بنا الأمر إلى تنظيم أول وأكبر مظاهرة احتجاجية فى عهد الرئيس المخلوع محمد حسنى مبارك، ثم قررنا الخروج فى مسيرة وثورة احتجاجية للمطالبة بحق المحامى عبدالحارث مدنى، رحمه الله. وتجمع الآلاف من المحامين من شتى الاتجاهات وخرجت المسيرة من دار نقابة المحامين وقد كانت فى عصرها الذهبى ونقيبها أحمد الخواجة.. ولم تكد أقدامنا تطأ شارع عبدالخالق ثروت إلا وأطلقت الشرطة الغازات المسيلة للدموع من كل اتجاه، فضلاً عن غازات تسبب الإغماء لعدة دقائق ليستمر الصراع والكر والفر من الساعة الواحدة ظهراً وحتى الرابعة عصراً.. وتفاصيل هذه الحادثة المشرّفة على موقع «جوجل» لمن يريد، وباختصار: تم القبض على ما يقرب من خمسين محامياً ينتمون إلى كافة التيارات، فضلاً عن ثلاثة من الإخوة المسيحيين فى ملحمة رائعة لن يفوتنى أن أذكر تفاصيلها فى مقال مقبل إن شاء الله. وبعد فترة قاربت الثلاثة أشهر، تم صدور القرار القضائى بالإفراج عنا جميعاً بعد أن اضطر الرئيس الأسبق إلى ذلك إثر الضجة الدولية التى قادها مجموعة من الصحفيين الأشراف كان على رأسهم المرحوم عادل حسين، السياسى والصحفى المعروف. وخرجت من هذه الواقعة وأنا مرفوع الرأس بعد أن نجانا الله بفضله جميعاً من اتهامات النائب العام وقتئذ، إلا أنه وبعد أسبوع تم التحقيق الأشد بالنسبة لى فى هذا الوقت، وهو تحقيق مكتب الإرشاد معى بسبب تنظيمى للتظاهر وما صاحب ذلك من إهانات لرئيس الجمهورية والحكومة والدولة.. ونظراً لأنى صاحب سوابق فى المخالفات الإخوانية الجسيمة فكان منها أيضاً عدم الوقوف للرئيس مبارك فى خطاب مجلسى الشعب والشورى وقت أن كنت عضواًً بالبرلمان، ومنها أيضاً قيامى بنزع صورته من نقابة المحامين وغير ذلك كثير جداً. ومن أجل ذلك فقد حدثتنى نفسى بأن ذلك التحقيق ستكون عواقبه شديدة وسيتم تطبيق أقصى العقوبة على شخصى المتواضع ونظراً لأنى كنت المسئول عن ملف المحامين داخل الجماعة فقد تم تحديد جلسة خاصة بحضور كبار الإخوان فضلاً عن حضور المستشار مأمون الهضيبى رحمه الله.. أما الذى أجرى التحقيق فقد كان الأستاذ مصطفى مشهور، المرشد العام الأسبق لجماعة الإخوان المسلمين، بشخصه وبنفسه.. وقد حضر رحمه الله فى حدود الساعة السابعة، وذلك بالمقر الانتخابى الذى كان معداً للانتخابات فى شارع جول جمال -بعين شمس- كما حضر مع هذا اللفيف شهود وأعضاء من مكتب المهنيين، حتى إذا ما امتلأت الحجرة عن بكرة أبيها بدأ التحقيق بمقدمة لطيفة وعبارات رغم لطفها إلا أنها تمهد لما سيأتى بعدها من لوم وتقريع.. ولم تمر الدقائق إلا وظهرت عبارات اللوم فى الأفق ثم اللوم الشديد ثم التحذير. وكان رحمه الله قليل الابتسام ولم يخفف من حرارة اللقاء إلا وجود المستشار مأمون الهضيبى الذى كانت تجمعنى به عاطفة قوية جداً كانت تدفعنى إلى الصبر دائما.. إلا أنى وفى هذه الجلسة كنت كلما نظرت إليه أجده وقد مال برأسه إلى الجانب الأيمن وقد أغمض عينيه وهى علامة لديه تشير إلى عدم الرضا، وبالرغم من أنى ترافعت عن نفسى فأحسنت المرافعة وقد بينت للأستاذ مصطفى مشهور، رحمه الله، أن واجبى كعضو لمجلس نقابة المحامين يملى علىّ وعلى من معى أن يضحوا بأنفسهم أداءً للأمانة، وبالرغم كذلك من إسهابى فى الأدلة والتدليل فإن الأستاذ مصطفى مشهور، رحمه الله، حسم الأمر من وجهة نظره فأكد لى فى أسلوب إلقاء التعليمات أن دعوة الإخوان المسلمين لا تعرف المظاهرات ولا الثورة وإنما هى دعوة لله وليست للفوضى.. ومعنى أن تكون الدعوة لله فهى أنها لا بد أن تسير على نهج الله، أما المظاهرات والثورات والمسيرات فهى تخالف الإسلام بما تؤدى إليه من فوضى، فضلاً عن أن الضرر الذى يحدث بسبب قيامك بالتظاهر إنما تحمل وزره يوم القيامة.. ثم بدأ رحمه الله يتلو علينا فقرات من رسالة المؤتمر الخامس التى ألقاها حسن البنا، رحمه الله، فى 2 فبراير عام 1939، التى جاء نصها: «أما الثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها ولا يعتمدون عليها ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها». واختتم الأستاذ مصطفى مشهور، رحمة الله عليه، عبارته بتحذيرى من «أن أظن أن يكون الحق معى.. فلا يكفى هذا الظن فى ذاته للدفاع عنه إنما الأهم هو ألا يترتب على طلب الحق أى ضرر لنفسى أو لغيرى أو للمجتمع». انتهت كلمات الأستاذ مصطفى مشهور، إلا أنها عادت إلى رأسى هذه الأيام مع اعتصامات «رابعة العدوية» ومع حرق الكنائس والمحلات والمبانى وقتل الأنفس وقسم كرداسة وقسم ناهيا وحرائق المنيا وقتل الجنود فى رفح والتهديد بالتدخل الأجنبى وطبعاً لست أبحث عن الفاعل حتى تتم إدانته، لكنى أبحث عن تلك العقول التى مهدت لذلك كله وأصرت على أن تنزلق إلى الأخاديد تحت اسم الدفاع عن الشرعية حتى لو لم تفعل شيئاً من ذلك بنفسها. لكن كل هذه الأضرار فى كوم وما أصاب الإخوان فى أمرهم كوم آخر؛ ذلك أن أكبر الأضرار التى أصابتهم بسبب مهزلة «رابعة» أنها أصابتهم فى مصداقيتهم وفى ثقة الناس بهم وأنهم قد تركوا زمناً كان الناس يلوحون لهم وهم أسرى بالسجون، إلا أنهم الآن يستقبلون زمناً يضربهم فيه الناس بالحجارة وزجاجات المياه الفارغة وهم يتظاهرون.. «ولا دى كمان ما انتوش شايفينها؟».