كانت الردة وحروب الردة أكبر زلزال أصاب الأمة الإسلامية بعد وفاة النبى (صلى الله عليه وسلم). وتدحض حالة الارتداد التى تفجرت بين كافة القبائل التى آمنت بمحمد فى مواضع مختلفة من الجزيرة العربية فكرة أن «العرب لن تخضع إلا لقريش» التى احتج بها أبوبكر الصديق (رضى الله عنه) أمام الأنصار، إذ حدث العكس وتمرد العرب جميعهم على قريش حتى لم يبق على الإيمان إلا أهل القريتين: مكةوالمدينة، كما عبرت السيدة عائشة (رضى الله عنها) طبقاً لما رواه صاحب البداية والنهاية، والذى أخضع العرب بعد وفاة النبى ليس السلطة المعنوية لقريش، بل السيف والحرب التى خاضتها القبيلة ضد القبائل الأخرى. وتحكى كتب السيرة والتاريخ أنه بعد وفاة النبى (صلى الله عليه وسلم) حدث أن ارتدت قبائل غطفان وطىء إلى الشمال الشرقى من المدينة، وارتدت تميم، وارتد أهل اليمامة، وأهل البحرين، وأهل عمان، وأهل اليمن وحضرموت. ويصنف المؤرخون المرتدين فى إطار فئتين، أولاهما: من ارتدّوا بادعاء النبوة مثل مسيلمة الحنفى وطليحة الأسدى والأسود العنسى، وآمن قومهم بما يقولونه، وثانيتهما: من بقى على إيمانه بأركان الدين الإسلامى بأن آمن بالله وشهد بنبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) وأقام الصلاة، إلا أنه رفض تأدية فريضة الزكاة وعدّها ضريبة يدفعها مكرهاً. وعبر قرون طويلة تم النظر إلى حروب الردة كحروب «دينية» حاول الصديق أبوبكر -من خلالها- إعادة من شردوا عن الإسلام بعد وفاة النبى من قبائل العرب المختلفة إلى حظيرة الإيمان. وحقيقة الأمر أننا لا نستطيع أن ننظر إلى هذه الحروب تبعاً لهذا الوصف لأكثر من اعتبار، أولها: أن الردة بمفهوم ادعاء النبوة لم ترتبط بتولى أبى بكر مهام الخلافة، بل بدأت فى عصر النبى (صلى الله عليه وسلم). ويروى «ابن الأثير» فى «الكامل فى التاريخ» قصة ادعاء مسيلمة الحنفى للنبوة فى حياة النبى ويذكر: «كتب مسيلمة الكذاب إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يذكر أنه شريكه فى النبوة، وأرسل الكتاب مع رسولين، فسألهما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عنه، فصدقاه. فقال لهما: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما. وكان كتاب مسيلمة يقول: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد فإنى قد أشركت معك فى الأمر وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشاً قوم يعتدون. فكتب إليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمّد رسول الله إلى مسيلمة الكذّاب، أمّا بعد، فالسّلام على مَنِ اتّبع الهُدى، فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين». تؤكد هذه الرواية أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنكر ما ذهب إليه «الكذاب مسيلمة»، وردّ عليه رداً هادئاً، ولم يهدده بحرب، بل نبهه فقط إلى قبح وعبثية ما فعل، وأن الأرض التى يريد اقتسامها مع محمد هى لله يورثها من يشاء من عباده. وتنبأ طليحة بن خويلد من بنى أسد أيضاً فى حياة رسول الله. ويذكر ابن الأثير فى تاريخه أن «النبى (صلى الله عليه وسلم) وجه إليه «ضرار بن الأزور» عاملاً على بنى أسد وأمرهم بالقيام على من ارتد، فضعف أمر طليحة حتى لم يبق إلا أخذه، فضربه بسيف، فلم يصنع فيه شيئاً، فظهر بين الناس أن السلاح لا يعمل فيه، فكثر جمعه. ومات النبى (صلى الله عليه وسلم) وهم على ذلك». والتلفيق فى هذه القصة واضح أشد الوضوح، فمن هذا الذى لا تعمل فيه السيوف؟ وقد عملت فيمن هو أشرف منه، من صحابة النبى (صلى الله عليه وسلم)وهى تعكس محاولة ركيكة لإثبات أن النبى (صلى الله عليه وسلم) تحرك لقتال من ارتدوا بادعاء النبوة. حروب الردة إذن لم تكن دينية، بل كانت فى جوهرها حرباً سياسية، يشهد على ذلك أن النبى لم يسيّر جيشاً لقتال المرتدين، رغم أنه ولآخر لحظة فى حياته الشريفة كان يشرف على تجهيز الجيش الذى ولى قيادته لأسامة بن زيد، وكاد هذا الجيش أن يتحرك -لمواجهة الروم- فى نفس اليوم الذى توفى فيه الرسول (صلى الله عليه وسلم). إذن كان هدف أبى بكر الصديق من هذه الحرب محاولة جمع شمل الدولة التى أصبحت مهددة بالتفكك بعد وفاة النبى، وهو أمر مشروع من الناحية السياسية، ولولا تحمل الخليفة الأول لعنته ومؤنته لم يكن أحد يعلم كيف كان سيسير التاريخ بأمة الإسلام.