المشهد السياسى المصرى، بعد عزل الرئيس محمد مرسى، يكشف عن نماذج مما يسميه كثير من المؤرخين «دهاء التاريخ»، ودهاء التاريخ يجعل فرداً -أو جماعة سياسية- يقف فى موقف مضاد لما ينادى -أو ما يزعم أنه ينادى به- دون أدنى إحساس بالتناقض. وقبل الثالث من يوليو كان هناك تحالف من قوى سياسية مختلفة المشارب: يساريين، ناصريين، ليبراليين، بقايا نظام مبارك، يسعون لحشد الشارع لعزل الرئيس مرسى. وكان «التحالف الشعبى» الذى أسسه المرشح الرئاسى الناصرى السابق، حمدين صباحى، أحد أهم القوى فى عملية الحشد قبل عزل مرسى. ومن المفارقات التى انطوى عليها المشهد الراهن أن اليسار المصرى «التقدمى»، بشقيه الناصرى والماركسى، أصبح -فجأة- فى مركب واحد مع قوى إقليمية، كالمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، بسبب موقفها من قرار عزل مرسى، وهى دول كانت دائماً فى خطاب هذا اليسار نماذج للقوى «الرجعية». بل إن دول الخليج كانت فى معظم أدبيات اليسار المصرى -وبخاصة اليسار الناصرى- رمزاً لكل ما هو شر، كما أن غير قليل من رموز التيارين كانوا كلما ذكروها فى خطابهم وصفوها ب«المحتلة أمريكياً»! وعندما كانت المنطقة العربية منقسمة عملياً بين محورين متصارعين، أحدهما تتزعمه المملكة والآخر على رأسه الطاغية العراقى صدام حسين، كانوا لا يكفون عن التبرك بزيارة العراق -وعواصم أخرى كان يحكمها طغاة مشابهون- مؤكدين اصطفافهم فى صف هذا الطاغية أو ذاك، واصفين عاصمته بأنها عاصمة: الصمود والإرادة والمقاومة والعروبة و.. .. .. .. واليوم لا يستنكر أى من هؤلاء قصائد المديح الكثيرة للمملكة وغيرها من دول الخليج فى الخطابين الإعلامى والسياسى، وكأن الشعب المصرى يعيش بذاكرة اليوم الواحد! ومن المفارقات أن التحولات التى شهدتها مصر خلال الأشهر القليلة الماضية وجعلت التيار الناصرى يشكل «القوة الضاربة» -وبخاصة فى الإعلام- لنظام سياسى مؤقت، يفتقر إلى القاعدة الشعبية والوجوه الكاريزمية، ويفتقر كذلك إلى الخطاب القادر على الوصول إلى الشارع. هذه التحولات ترافقت مع قرار أمريكى وشيك بتوجيه ضربة عسكرية إلى نظام بشار. وفى الضربة يقف حمدين صباحى، مؤسس التيار الشعبى، ضد الضربة، بينما المملكة العربية السعودية تؤيد الضربة بل تعرض -حسب روايات أمريكية- تمويلها. وعندما يقول حمدين صباحى -فى سياق المقارنة- إن البرلمان البريطانى أكثر عروبة من جامعة الدول العربية، لأنه رفض منح تفويض لرئيس الوزراء البريطانى للمشاركة فى الضربة العسكرية ضد نظام بشار، فإن حمدين صباحى بذلك يكون قد اختار المواجهة مع «الطرف الأضعف» (جامعة الدول العربية)، بينما القاصى والدانى يعلم أن المملكة السعودية أحد أهم أنصار «معاقبة نظام الأسد». فما الذى يجعل ناصريى 2013 يتحاشون إبداء رأيهم فى موقف السعودية من توجيه ضربة عسكرية لنظام بشار الأسد؟ ورغم أننى ممن لم يكن لهم أبداً فى أى وقت موقف عداء من أى دولة خليجية، لا السعودية ولا غيرها، ولا ممن يرون العالم بشكل طفولى منقسماً: «الرجعيين» و«التقدميين» كما هو البعض، إلا أننى أشعر بأن اللحظة التى تتحول فيها المواقف على نحو لا يجرؤ معه سياسيون ومثقفون ناصريون على إبداء رأيهم فى دور قوة إقليمية كبرى فى عملية عسكرية محتملة ضد سوريا هى لحظة من لحظات «دهاء التاريخ» المدهشة، والناصريون يستسهلون سب أمريكا والجامعة العربية، ولكن تقاطع المصالح فى الصراع مع الإخوان جعل الناصريين يكتشفون قيمة الحكمة القائلة: «السكوت من ذهب». وسبحان مغير الأحوال!! وفى الحقيقة فإن هذا الموقف يفتح الباب لكثير من الأسئلة ومنها: هل أصبح الصراع مع جماعة الإخوان المسلمين له هذه الدرجة من المركزية فى الرؤية الناصرية بعد كل هذه السنوات التى مرت على وفاة عبدالناصر؟ وهل القضية هى فعلاً أولوية وطنية ما أم غلبة لمنطق انتقامى غريزى توهم كثيرون -وأنا منهم- أنه أصبح من الماضى؟ إن لغة خطاب كثير من رموز التيار الناصرى، بعد الثالث من يوليو، تبعث على القلق الشديد على حقيقة ما يدعيه كثير منهم، من أنهم قاموا بمراجعة لتجربة حكم جمال عبدالناصر، وأنهم تجاوزوا دولة الفرد والحكم الشمولى ولغة الإقصاء والحل الأمنى، وإذا بكل المفردات القديمة تعود كأن عقوداً لم تمر، وكأن ثورة لم تقم. وردود فعل بعض الناصريين على استقالة الدكتور محمد البرادعى من منصبه كنائب لرئيس الجمهورية تعيد إلى الذاكرة أشباح قناعات كان المأمول أن تنتهى بنهاية زمن الاتحاد الاشتراكى! وفى النهاية نسأل: أيهما أكثر تعبيراً عن ناصرية 2013، زيارات تضامن قام بها ناصريون وتنصل منها ناصريون آخرون؟ أم مواقف ناصرية متضاربة، بعضها مؤيد بوضوح لنظام بشار الأسد وممارساته، وبعضها معياره الوحيد «مخالفة» الموقف الأمريكى أياً كان؟ وهل يجب على الناصريين -وبخاصة التيار الشعبى- الإعلان الواضح عن موقفه من الدماء التى يسفكها نظام بشار؟ وهل صحيح أن بعض اليساريين، المتضامنين اعتراضاً على الضربة العسكرية لنظام بشار، هتفوا فى مظاهرة فى القاهرة بشعار: «شبيحة إلى الأبد.. لأجل عيونك يا أسد»؟ وهل يجب الثقة فى التيار الناصرى كشريك فى مجتمع ديمقراطى تعددى؟ وهل قرر الناصريون التضحية ب«أوهام الزمن الجميل» بعد أن أصبحوا مع «الرجعية العربية» فى مركب واحد؟