من الطرق التى اعتدت التعامل بها مع القضايا المركبة أو المثيرة للجدل على نحو خاص أن أعود إلى مكتبتى بحثاً عن كتاب له أهمية استثنائية (وهى كتب قليلة) أو إلى كاتب له أهمية استثنائية (وهم انقرضوا) بحثاً عن «مرآة» أنظر من خلالها إلى الحدث! وقد أنهكتنى نفسياً حالة الغضب المنفلت وطاعون «لدد الخصومة» اللذين تفشيا فى ساحة العمل العام ليصيب البلاد والعباد، ولتظهر ثمراته الأكثر مرارة فى أنواع الخطاب كافة: السياسى، الإعلامى، والتحليلى. ما جعلنى أفكر فى مقالات أكون فيها فى إجازة من السياسة. وقد حدث هذا الاستقطاب العنيف على وقع الأزمة السياسية الكبيرة التى ما زلنا نعيش فصولها منذ انطلقت ثورة الخامس والعشرين من يناير. وهذه الأزمة يرى البعض أن محصلتها إعلان «فشل السياسة» (بل ربما موتها)، أى نهاية التعامل بتلك العملة التى أحد وجهيها التنافس والثانى التوافق، ليحل محلها الصراع بوجوهه المختلفة الأيديولوجية والدينية والمذهبية. وفى الحقيقة فإن «الدول الفاشلة»، التى يخشى كثيرون من أن تصبح مصر ضمن قائمتها، هى دول فشلت نخبتها الرسمية وغير الرسمية فى إدارة عالم الأفكار والقيم، قبل أن تفشل أجهزتها الإدارية فى تحويل الفشل من إفلاس عقلى وأخلاقى إلى مؤشرات يمكن قياسها كمياً: «فشل أمنى - فشل سياسى - فشل اقتصادى - ......»، ومن الخير لمصر فى هذه الأزمة أن ينتزع بعض مثقفيها أنفسهم من السجال السياسى ليحاولوا النظر بشكل أكثر شمولاً، وبأمل تسليط الضوء على جوانب معرفية وأخلاقية فى الأزمة، أنا على يقين من أنها سوف تسهم بقوة فى ترشيد منطق الفكر وإيقاع الفعل معاً. ولأن النجاح والفشل كليهما يبدأ فى عالم الأفكار فقد اخترت أن أعود إلى كتاب «تاريخ موجز للفكر العربى»، وهو واحد من الكتب ذات الأهمية الاستثنائية فى الثقافة العربية المعاصرة -رغم محدودية شهرته- وهو لواحد من الكتاب المفكرين المرموقين بحق هو الدكتور حسين مؤنس، ولا أظن أن شهادتى فيه مقبولة، لأننى ممن يكنون له حباً كبيراً!! ولأن حسين مؤنس مؤرخ مفكر لا يحتاج إلى من يعرِّف به فسأدخل مع القارئ إلى قلب الكتاب مباشرة. وأولى الملاحظات الثاقبة لمؤنس فى مقدمة الكتاب «أننا فى العالم العربى ليس لدينا تواريخ كافية للفكر العربى، إنما نحن لدينا تواريخ للأدب العربى»، وهذه المقابلة وحدها فيها ما يسهم فى تفسير حالة الصراع «الصوتى» التى تشهدها ساحة السياسة، وهو صراع يشير إلى غلبة «الصخب» على التأمل الهادئ، وواضح أن الظاهرة لها جذور قديمة، فعلى مدى تاريخنا كان لدينا تواريخ للأدب، ولم يكن لدينا تاريخ للفكر! ومن روائع ما يلمحه حسين مؤنس أولاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم من البداية لم يطلق على من اعتنقوا الإسلام «الأتباع» بل «الأصحاب» و«الصحابة»، والصحبة تعنى ضمن ما تعنى: المساواة، فهو لم يرض لهم بأقل من ذلك، ولو أراد غير ذلك لكان له ولكانوا أطاعوه بكل الرضا. وهو صلى الله عليه وسلم كان يأخذ منهم ويعطى، وكان يستمع إليهم ويقبل مشورتهم. ومقارنة هذا السلوك النبوى بما تشهده الحركات الإسلامية الآن من تكريس لصيغة «التابع» و«المتبوع» لا تحتاج إلى كثير شرح! وفى لفتة مزدوجة يتوقف «مؤنس» أمام مقتل الصحابى الجليل حجر بن عدى على يد معاوية بن أبى سفيان، وكان حجر رجلاً حراً فكان يرد على والى معاوية إذا سمعه يسب علياً على المنبر، فكتب الوالى الأموى فى أمره لمعاوية، فأمر معاوية بأن يساق إليه هذا الصحابى الجليل فى القيد. فلما حاول قومه أن يمنعوا الجند من أخذه رفض وقال: بل سمع وطاعة، فلما حملوه إلى معاوية ودخل عليه سلم عليه بإمارة المؤمنين، لكن معاوية أمر بقتله. ويشير مؤنس بإيراده هذه التفاصيل إلى أن القتيل لم يكن ينكر إمارة معاوية ولم يمتنع عن السمع والطاعة، وكان «جرمه» أنه صاحب فكر ورأى. والوجه الآخر المهم الذى توقف أمامه مؤنس هو أن «الطبرى» المؤرخ الكبير ساق الخبر بعدة روايات ولم يتوقف أمام مقتله لحظة، ولم يقل فى رثائه كلمة، وكأن هذا الصحابى المقتول ظلماً كان «سفاكاً أو خارجاً عن القانون». ويضيف مؤنس أن الطبرى: «كان يكتب فى النصف الثانى من القرن الثالث الهجرى/ التاسع الميلادى، وكانت قاعدة «أنت تفكر.. إذن أنت غير موجود» قد استقرت وتبلد عليها إحساس الناس». وفى الحقيقة فإن هذه العبارة من العلامة الدكتور حسين مؤنس شفت غليلى إلى حد كبير، لما أستشعره من مخاطر كبيرة أرى أنها تحيق بنا بسبب كارثة «تبلد الحس الخلقى» التى لا أراها تؤلم كثيرين كما تؤلمنى! وكتاب العلامة حسين مؤنس، الفريد فى بابه، يحمل الكثير من الوقائع والفواجع والدروس والعبر التى سأتوقف أمامها لاحقاً، ومعظمها متصل بما نعانيه من أزمات جذورها بعيدة فى التاريخ ولا يزال العقل العربى عاجزاً عن اقتلاعها من حاضره. وكثير منها قضايا مفصلية ما زال المتحمسون لوصل ما انقطع من مسار الحضارة الإسلامية يغفلون عنها، أو يعجزون عن إدراك وجه الصواب فيها. والكتاب -أولاً- رسالة لأنصار المشروع الإسلامى -وأنا منهم- وهى رسالة ينبغى أن نقرأها جميعاً بمنتهى العناية.. الآن وليس غداً!! وللحديث يقية.