تجمعني صداقة تقترب الآن من ربع قرن بواحد من أعضاء "الجماعة الاسلامية" الذين قدموا تضحيات كبيرة في سبيل الفكرة التي يؤمن بها والتنظيم الذي انتمى اليه منذ كان في المرحلة الثانوية، وطوال هذه السنوات لم أشهده على هذه الدرجة من الارتباك وغياب اليقين . صار صديقي يتبنى المواقف ونقيضها، يدافع عن فكرة الى درجة التماهي الكامل معها ثم ينقلب عليها تماما بعد ساعات معدودة، يحار في فهم قادته ثم يلتمس لهم الأعذار، يصارحني بشكوكه وقبل أن أناقشه يعود فينكر ما قاله للتو مؤكداً ثقته في "الشيوخ" ومنهجهم، حتى وجدته قبل أيام يعلن حيرته وسط أسماء المرشحين للرئاسة لا يستثني منهم أحداً ، عاجزاً عن المفاضلة بين المنتمين الى رؤى "الاسلام السياسي" والبعيدين عنها، ومعتبراً أن هذا الفارق "شكلي" لا يعوّل عليه عند الاختيار. أظن أن اضطراب هذا الصديق هي حالة متكررة بين أعضاء "الجماعة " التي تبحث لها عن موضع لائق في الخريطة الجديدة للقوى الاسلامية بعد الثورة، لكنها تعاني من صعوبات بعد تشكيلها حزب "البناء والتنمية"، يتعلق بعضها بضعف خبرة العمل الحزبي، ويتصل البعض الآخر بذوبان الفوارق الفكرية التي تفصلها عن بقية الجماعات الاسلامية بما فيها "الإخوان" التي كانت "الجماعة" تعتبرها نقيضا لها في أسلوب الحركة . بدأت "الجماعة الاسلامية" كحركة طلابية صغيرة في جامعة أسيوط مطلع سبعينات القرن الماضي، مستندة إلى إحباط يجتاح جيلاً يبحث عن خلاص من حالة الهزيمة المعنوية للمشروع الناصري بعد نكسة 67 ، وسرعان ما تمددت في معظم الجامعات ونجحت في اجتذاب آلاف الطلاب مدعومة من أجهزة الرئيس السادات، لتواجه وهي ما زالت في مرحلة التكوين أول تحد بمواجهة صقور "الإخوان المسلمين" الذين انقضوا على التنظيم الوليد محاولين اقتناصه لصالح جماعتهم العائدة من "سنوات المحنة"، ونجحوا بالفعل في استقطاب معظم كوادر "الجماعة" في القاهرة والاسكندرية والمنيا، بينما حافظ قادة التنظيم الجديد على تماسكه في بقية محافظات الصعيد. وبعد تجربة قصيرة للاندماج مع مجموعات تنظيم "الجهاد" أسفرت عن اغتيال السادات استعادت "الجماعة" في منتصف الثمانينات كيانها التنظيمي داخل السجون، وطوّرت خطابا مختلفاً عن بقية الفصائل الاسلامية، وشكّلت جناحا عسكرياً نفّذ هجمات موجعة استهدفت في الأغلب كبار المسئولين ورجال الشرطة والسياح والأقباط، بل إن "الجماعة" تمكنت من فرض نفوذها لسنوات خارج القانون على مناطق مثل امبابة وعين شمس و بعض قرى الفيوموأسيوط والمنيا، تحولت فيها الى ما يشبه "سلطة الأمر الواقع" . ثم جاءت مراجعات شيوخ "الجماعة" داخل السجون - لتأصيل مبادرة وقف العنف الصادرة في يوليو 1997 - لتحولها من تيار "السلفية الجهادية" الى أحد نماذج "السلفية الدعوية التقليدية". إن حسم خيارات "الجماعة" في الرؤية الفكرية والبرنامج السياسي والخطاب الإعلامي سيسهم إلى حد بعيد في تحديد مستقبل هذا التنظيم وسط تيار إسلامي يطمح لقيادة مصر كلها.