محاولة لتفكيك وتحليل ما يسمى بالعقل الثورى منذ اللحظة الأولى لاندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011، ومع تكرار موجاتها (أبريل ثم نوفمبر 2011) حتى موجاتها الثالثة العاصفة فى الثلاثين من يونيه عام 2013، وهناك منطق متكرر ومنظومة أفكار ضارة، وشعارات رفعت، أضرت بالثورة المصرية، وأوقعت بها فى مأزق تلو الآخر، وعثرة بعد الأخرى، فتأخرت فى تحقيق أهدافها، وتاهت فى دهاليز ومسارب أصحاب الغرض والمرض. ونظراً للمخاطر المتعددة التى تحيط بالموجة الثورية الراهنة، والتى قد تؤدى بها -لا قدر الله- إلى الفشل، فقد آن الأوان إلى العرض على الرأى العام والشعب صاحب المصلحة الحقيقية فى نجاحها، وهذا المنطق وهذه المقولات المتكررة كنغمة نشاز هى: المقولة الأولى: الإتيان بحكومة تكنوقراط أو خبراء..!! من أولى الخطايا التى ارتكبها شباب الثورة فى موجتها الأولى فى الخامس والعشرين من يناير، هو ترديد مقولة: «نريد حكومة تكنوقراط» تحت وهم ساذج بأن هذه الحكومة ستبتعد بالبلاد عن المحاصصة الحزبية من ناحية، وستكون قادرة على الإنجاز بحكم تخصصات أصحابها من ناحية أخرى، وفى ضوء هذه المقولة الخبيثة، جاء المجلس العسكرى بالدكتور عصام شرف الذى أضاع بحكومته على الثورة حوالى ثمانية عشر شهراً من أهم الفترات الحرجة فى تاريخ الثورة المصرية، بل وكل ثورة فى العالم، وجوهر الخلل فى هذه المقولة الأسباب الأربعة التالية: 1- أن التجارب الثورية فى العالم أجمع تثبت أن أخطر من يضر بالثورة وأهدافها هم هؤلاء الذين يسمون التكنوقراط أو الخبراء غير السياسيين، لأنهم عادة ما يأتون من المنطقة الرمادية فى السياسة، فلم يعرف عن الكثيرين منهم أنهم عارضوا سياسة قائمة، أو قدموا تصوراً أو رؤية مناقضة لسياسات النظام القائم قبل الثورة، بل المصيبة أن منهم من كانوا أعضاء فى حكوماته ولجان سياساته. 2- أن هؤلاء التكنوقراط أو الخبراء -غير المنتمين سياسياً وحزبياً فرضاً- لا ينسجمون بالطبيعة مع مطالب الثوار، بقدر ما يسعون إلى منافقة الثورة والثوار، ومسايرة شعاراتهم، حفاظاً على مصالحهم ورغبة فى ركوب جوادها لكبح جماح اندفاعها وإعادة ضبط إيقاعها. 3- أن هؤلاء عادة ما يكونون جزءاً من منظومة القيم السياسية السائدة قبل الثورة، ومن ثم فإن مدركاتهم السياسية، ونمط تحيزاتهم الاجتماعية، لا يختلف إطلاقاً عن مدركات وتحيزات رجال النظام الذى ثار عليه الشعب. 4- بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه المقولة الفاسدة والمدلسة تضع تناقضاً مصطنعاً بين رجال الثورة وكوادرها، والخبرة السياسية والمهارة الإدارية التى تمكنهم من إدارة شئون الدولة وأجهزتها التنفيذية والإدارية، ولذلك ليس غريباً أن نكتشف أن أول من أطلق هذه المقولة ورددها وسط الشباب هم مجموعة من المثقفين والكتاب الذين طالموا تندروا على الداعين للثورة فى مصر، وزعموا أن عصر الثورات الشعبية قد انتهى، بل المصيبة أنه حينما اندلعت الثورة فى تونس خرجوا علينا بمقولة إن مصر ليس تونس..!! المقولة الثانية: ضرورة سابقة الخبرة فى إدارة مؤسسات الدولة ووزارتها!! من أندر وأفدح المقولات التى سمعناها تتردد وسط شباب الموجة الثالثة للثورة، وبعض نواب مجلس الشعب ما قبل الثورة، مقولة الاستعانة بمن شغلوا مواقع تنفيذية فى حكومات ما قبل الثورة، لكى يديروا المرحلة الثورية..!! وجوهر الفساد فى هذه المقولة ثلاثة هى: 1- أن الثوار يطالبون اليوم بالاستعانة بنقيضهم الاجتماعى والسياسى، بل وغالباً سيستعينون برجال لجنة السياسات والحزب الوطنى السابق، ودون تمحيص فى مدى كفاءتهم فى إدارة هذه المؤسسات نفسها، ولن أذكر أسماء كثيرة معروضة الآن فى سوق المزاد الحكومى، ومن يرغب فلدى من المعلومات الكثير. 2- وكأن الشرفاء والمخلصين الذين رفضوا تولى المناصب التى عرضت عليهم من رجالات النظام السابق، ورفضوا الالتحاق بلجنة السياسات وتولى مناصب وزارية أو تنفيذية، عليهم أن يدفعوا الثمن مرتين، مرة قبل الثورة بالرفض، ومرة أخرى بعد الثورة ممن يدعون بأنهم ثوار..!! 3- أن أصحاب هذه المقولة -وللأسف من بينهم كبار السن ورجال محسوبون على اليسار والثورة- لم يكلفوا أنفسهم عناء بذل مجهود لقراءة عدد كبير من المؤلفات والدراسات التى تربوا على أربعين كتاباً، ومئات اللقاءات التليفزيونية التى قدمت رؤية متكاملة لكيفية إعادة هيكلة السياسات العامة والسياسات الاقتصادية خصوصاً، فسمعنا مقولات ساذجة ومضحكة مثل: «نريد من يستطيع أن يدير السيارة بمجرد وضع المفتاح» ولم يسأل هؤلاء أنفسهم ماذا كانت نتائج مفاتيح وسيارات هؤلاء على مصر واقتصادها طوال أربعين عاماً ماضية. هذه نماذج من فساد العقل والمنطق السائد حالياً، وخداع للبصر وعمى للبصيرة لمن يتصدون للمشهد الراهن ومزادات التعيينات الوزارية، وهم فى عماهم لم يختلفوا كثيراً عن سلطة الإخوان، وأخشى أنهم بسلوكهم هذا يدفعون الناس إلى الكفر بالثورة والثوار، طالما أن درب الفشل معبد من اللحظة الأولى بالأشواك. * الخبير فى الشئون الاقتصادية والاستراتيجية