يتفاخر المسلمون، على مدار الأمكنة ومسار الأزمنة – بأن النبى محمد (ص) كان أمياً . ولأنهم يتخذون النبى أُسوة، فقد حرصوا على أن يشيع فهم الأمية الأبجدية، أى أمية القراءة والكتابة، فضلاً عن الأمية الثقافية والأمية السياسية، وما إلى ذلك . ومع أن للمسألة وجه آخر، فقد إلتفتت عنه المجتمعات الإسلامية وحرصت على ألاّ تناقشه أو أن ترفض الإقتناع به إذا ما طُرح عليها . ذلك بأن لفظ "أمّى" فى القرآن لا يعنى الأمية الأبجدية، أى عدم معرفة الكتابة والقراء، لكنه يفيد معنى غير اليهودى، أو الأممى . وفى القرآن آيتان تقطعان بذلك، "هو الذى بعث فى الآميين رسولاً منهم" سورة الجمعة آية 2 "وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين، ءأسلمتم" سورة آل عمران آية 20 . فالمقابلة فى الآية الثانية هى بين الذين أوتوا الكتاب، وهم اليهود خاصة، وبين الأميين، أى غير اليهود عامة . كان من نتيجة هذا الفهم الخاطئ للفظى : الأمى والأميين، أو على الأقل، عدم تحديد معنى كل من اللفظين حال الإستعمال، أن إتخذت الشعوب العربية، ومنها مصر، من الأمية سبيلاً، ثم أدت الأمية الأبجدية إلى أمية ثقافية وأمية سياسية، وكان المهم والأخطر هو إنتشار ثقافة الإشاعات التى لا تتحقق من قول ولا تتثبت من فعل، فتكون كالببغاء عقله فى أذنيه، وتصير ظاهرة صوتية وفقاعة غازية، تقول ما لا تفعل وتثور ثم سرعان ما تخمد وتهمد . وإذا مارى أحد فى التفرقة بين الأمية الأبجدية من جانب والأمية الثقافية والسياسية من جانب آخر، أشار له المقال إلى كلّ من أبى العلاء المعرى وطه حسين . فكل منهما كان كفيفاً من صغره، وبالتالى كان أمىّ الأبجدية، لا يكتب ولا يقرأ، لكنه برز فى الشعر وفى غير الشعر من أدب وتاريخ وحكمة ومعارف أخرى . الثقافة الشفهية هى أسوأ ما تُبتلى به أمة أو شعب أو جماعة أو فرد، فمعها يكون العقل فى الآذان والفكر فى خبر كان، وفى المناخ الأمىّ لا يصح دين ولا تكون ثقافة ولا يلزم خُلق . فالدين بالعلم يكون قوة دافعة إلى الأمام والتقدم، والدين بالجهل يصير قوة جاذبة إلى الوراء والتخلف . وثقافة الإشاعات تؤدى لا محالة إلى الجهل والتشتت والتخطّف، والحفظ دون فهم والنقل دون عقل . والثقافة تقتضى لكى تكون حقيقية شاملية أن تركن فى كل ما تقول أو تسمع أو تقرأ إلى التحقيق والتدقيق والتوثيق . والأخلاق لا تتكامل قولاً وفعلاً، إذا كان الشرف مْنكورا بإشاعة والإستقامة مقلوبة بإشاعة والأمانة مجحودة بإشاعة . وفى مخاطر الإشاعات لا يأمن المرء على نفسه ولا على إستقامته ولا على أسرته، ما دام كل شئ يمكن أن يُقوَّض بمجرد الإشاعة التى قد لا يسمعها من تقصده، ويصدقها أقرب الناس إليه، ما دام العقل والفكر والتقدير قد تكوّن من إشاعات مجردة غير صادقة . لذلك كله نؤكد على الكلمة التى بدأ بها القرآن (إقرأ) . فهى التى تكون دواء ناجحاً وناجعاً لآثار الثقافة الشفهية المخيفة .