"النموذج الباكستاني"، عبارة تتردد كثيرا في معرض الحديث حول العلاقات المدنية العسكرية وهيمنة المؤسسة العسكرية على الساحة السياسية. في الديموقراطيات الراسخة تتسم العلاقات المدنية العسكرية بالتأثير المتبادل ولكن في النهاية تقوم تلك العلاقة على أساس التبعية الكاملة من المؤسسة العسكرية للسلطة المدنية المنتخبة، بينما الوضع مختلف في باكستان حيث يعد الجيش هو الأقوى سياسياً على الساحة وذلك لعدة أسباب وتطورات تاريخية. ولتقريب الوضع السياسي الباكستاني للقارئ، فإن تقرير "الإيكونيميست" حول معامل الديموقراطية في دول العالم لعام 2010 جاءت باكستان في الترتيب 104 بتقدير 4.55 / 10 ، تجدر الإشارة إلى أن البيئة السياسية الباكستانية اعتادت المرور بانقلابات عسكرية متعددة. نجح منها ثلاثة انقلابات في أعوام 58، 77، ومؤخراً في عام 99. ويعد التدخل بالانقلاب هو أحد أسلحة المؤسسة الباكستانية على الساحة السياسية وهو ما يعطيها نفوذاً بالإضافة إلى الدور الاقتصادي والتنموي والدعم الغربي من الولاياتالمتحدة. كل تلك العوامل تعطى للمؤسسة العسكرية الباكستانية وضع الحامي للدولة والطرف الذى يتدخل عند حدوث اضطرابات أو في حالة عدم رضاه عن الوضع السياسي القائم. ومن الأسباب التي تهيئ للجيش الباكستاني التدخل في الساحة السياسية هو الفساد المنتشر في الدولة الباكستانية وبالتالي عدم كفاءة المدنيين في إدارة الدولة وتقديم الخدمات. ففي تقرير مؤشرات الفساد الصادر لعام 2011 احتلت باكستان الترتيب 134 بمؤشر 2.5/ 10 . ونتيجة لانتشار الفساد في باكستان، من المعتاد أن يكون للجيش دور في الأنشطة التنموية من إقامة طرق وإعادة تأهيل المناطق المنكوبة من جراء الزلازل أو الفيضانات وكذلك استعادة الأمن والنظام في أوقات الاضرابات. ونظراً لقوة الجيش وانضباطه الداخلي فإن انقلابه على الحكومات الهشة والفاسدة يصبح أمراً سهلاً ولا يقابل بمقاومة داخلية. وبالتالي فإن الحياة السياسية في باكستان رهينة بين نخبة مدنية غير قادرة على إدارة البلاد بكفاءة أو بين الوقوع تحت رحمة حكم عسكري قد يحقق بعضا من الاستقرار النسبي، لكن له من المساوئ الكثير فيما يتعلق بالحريات العامة أو إقامة حياة ديموقراطية سليمة، وكذلك من مساوئه مؤخرا التبعية الشديد للولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب والسماح لها بالتواجد وتنفيذ عمليات عسكرية داخل الأراضي الباكستانية، الأمر الذى كان أحد الأسباب الذى أدى إلى زيادة الاحتقان وعدم الاستقرار الذى انتهى باستقالة برويز مشرف من رئاسة الجمهورية في عام 2008. ووفقاً للتقارير المختلفة، فإن النشاط الاقتصادي الخاص بالمؤسسة العسكرية هو أحد أهم أسلحتها للتواجد على الساحة السياسية، فهي تمتلك مصانع لكافة المنتجات بدءاً من الإسمنت وانتهاء بالصناعات الغذائية، كما أنها تتحكم في مساحات واسعة من الأراضي ولها العديد من الأنشطة الاقتصادية المدنية مثل محطات الوقود، البنوك والجامعات وشركات التأمين المملوكة للجيش كل تلك الأنشطة تصب في خانة النفوذ السياسي للمؤسسة العسكرية. بالإضافة إلى المعونات الاقتصادية المقدمة من الولاياتالمتحدةالأمريكية نظير المشاركة في الحرب على الإرهاب. تلك المعونة تقدر ب 2 مليار دولار سنوياً. وتسعى المؤسسة العسكرية إلى إيجاد غطاء قانونى أو دستوري لدورها السياسي، وذلك عبر النص على وجود مجلس أمن قومي في الدستور بما يعطى لها حق التدخل في السياسة على النمط التركي (ما قبل أردوغان)، وكان التبرير لذلك أن يقوم الجيش الباكستاني بحماية الهوية الإسلامية للدولة وضمان سير المجتمع عليها. ومع وجود شد وجذب تم إلغاء التعديلات الخاصة بذلك المجلس، ولكن تم إنشاءه لاحقاً من قبل السلطة التنفيذية لتعمل كهيئة استشارية لرئيس الجمهورية، ويعد هذا المجلس الغطاء القانوني للمؤسسة العسكرية في التدخل لرسم السياسات الخاصة بالدولة وبالأخص في ملفات السياسة الخارجية. ويظل الانقسام والتشرذم الخاص بالقوى السياسية المدنية وعدم قدرتها على تقديم نموذج للحكم الرشيد للمواطنين الباكستانيين هو التحدي للخروج من ظل الهيمنة العسكرية على السياسة. ودوما ما ارتبطت فترات الحكم المدني بحالات عدم استقرار وتردى اقتصادي بعكس فترات الحكم العسكري التي استغرقت حوالى ثلاثة عقود متفرقة وكانت أكثر استقراراً وكفاءة من الحكم المدني، لكنها في النهاية لم تقدم نموذجاً مرضياً في ظل تردى الأوضاع حال وجود الرئيس مشرف على رأس السلطة سابقاً.