تعد تجربة شيلي من أفضل نماذج تحجيم سلطة المؤسسة العسكرية من التدخل في الشؤون السياسية، فقد نجحت شيلي في إعادة صياغة هذه العلاقة بعد أن كانت المؤسسة العسكرية هناك تمتلك زمام الأمور منذ قيام الجنرال بينوشيه بإنقلاب عسكري عام 1973على الرئيس المنتخب سلفادور الليندي. أطلق بينوشيه مرحلة طويلة من الدكتاتورية العسكرية، حيث دام حكمه 17عاماً شهدت شيلي خلالها حالات قمع شديدة بالإضافة إلى تقييد الحريات وإلغاء المؤسسات الديمقراطية للبلاد. ومكنه دستور 1980 من القيام بذلك، والذي تمت صياغته بشكل يتيح لبينوشيه السيطرة على مقاليد الحكم، وجعل للمؤسسة العسكرية الكلمة العليا في كافة شؤون البلاد. فكان يسمح لقائد القوات المسلحة بالبقاء في منصبه لمدة 4 سنوات، ولا يمكن عزله إلا بموافقة مجلس الأمن القومي الذى يستحوذ العسكر على نصف قوته التصويتية، كما أن الرئيس لا يستطيع عزل قادة أركان وأجهزة القوات المسلحة المختلفة، إلا بموافقة القائد الأعلى للقوات المسلحة. بالإضافة إلى إنشاء مجلس الأمن القومي وفقا لدستور 1980 والذى يقدم المشورة للرئيس في كل ما يتعلق بالأمن القومي، ولهذا المجلس الحق في تعيين أربعة من الأعضاء التسعة المعينين بمجلس الشيوخ كل ثماني سنوات. وبالنسبة للنواحي الاقتصادية فإن لدى القوات المسلحة حد أدنى من الميزانية يجب أن تحصل عليه وفق القانون الدستوري، إضافة إلى حصولها على 10% من أرباح صادرات النحاس من الشركة الوطنية للنحاس. لكن في عام 1988 تحرك تكتل كبير من الأحزاب السياسية الديمقراطية والنقابات العمالية والجماعات المدنية للإطاحة ببيونشيه في استفتاء دستوري أجري عام 1988 والذي كانت نتيجته 55% لعدم تجديد ولايته مقابل 43% لتجديدها، وأُجبر بينوشيه على قبول الخسارة والخضوع لأحكام الدستور الذي فرض إجراء انتخابات رئاسية في مهلة 17 شهراً من إعلان نتائج الاستفتاء. التعايش المدني العسكري: على الرغم من استمرار انقسام النخبة بعد رحيل بينوشيه حول الدور المفترض أن تكون عليه المؤسسة العسكرية في الحياة المدنية والسياسية، بين التيار اليميني المؤيد بقوة لتحكم الجيش في قواعد اللعبة والتيارات اليسارية والوسطية المعارضة لذلك بشدة وتحاول أن تبسط سيطرة مدنية على المؤسسة العسكرية، إلا أن جميع الحكومات المتعاقبة اتفقت على هدف مشترك وهو إخضاع المؤسسة العسكرية للسلطات المدنية المنتخبة. ومنذ ذلك الوقت انتهجت شيلي طريقاً مزدوجاً يسعى إلى تَغيير توجهات المدنيين حيال الجيش والعكس، فقد حرصت على التأكيد على ضرورة احترام العسكريين للسلطة الشرعية، وعدم انخراطهم في الحياه السياسية من ناحية، واحترام المدنيين للعسكريين وقبول احتكارهم للقوة المسلحة من ناحية أخرى. وذلك بعد إدارك أنه لا يمكن بناء تحول ديمقراطي بواسطة القوى الديمقراطية وحدها، فمن الضروري التوصل إلى اتفاق مع القوى التي لا تدعم الديمقراطية. وقد اتضح ذلك في اعطاء بينوشيه عضوية دائمة في مجلس الشيوخ ومنحه مستوى من الحصانة في ما تعلق بجرائمه السابقة استنادا إلى مرسوم العفو الصادر في العام 1978 قبل أن يتم ملاحقته قضائياً فيما بعد. ومنذ رحيل بينوشه شهدت هذه الفترة تزايد في السيطرة المدنية في مقابل هيمنة المؤسسة العسكرية، فالجيش التشيلي أضحى أكثر مهنية في مواجهة التغيرات السياسية وأُبعد عن الحياة السياسية، وقد تجلى ذلك في عدة مظاهر: أولاً: اعتقال بينوشيه ومحاكمته، ففي عام 1998 ألقت السلطات البريطانية القبض على الجنرال بينوشيه بلندن وبالرغم من تسريحه بعدها لظروف صحية إلا أن ذلك شجع القضاء التشيلي على البدء في التحقيق في بلاغات القتل الجماعي أيام رئاسته مما أدى إلى سلسلة من الاعتقالات في حقه وضعته في حالة من الدفاع حتى موته في .2006 ثانياً: التعديلات الدستورية في 2005 والتي أعادت للرئيس سلطة ترقية وإحالة أعضاء الجيش إلى المعاش، وبدأ المدنيون مجدداً الانتشار في وظائف وزارة الدفاع، فضلاً عن عدم وجود وضعية خاصة أو مواد حصرية تتمتع بها المؤسسة العسكرية في الدستور ولكن حاول المدنيون السيطرة والرقابة على العسكريين لضمان عدم تدخلهم في الشئون السياسية. ثالثاً: "الكتاب الأبيض"، يرجع بعض الباحثين سبب التحسن في علاقة العمل بين القادة المدنيين وجنرالات الجيش إلى زيادة نسبة شفافية الجيش من خلال تبنيه "الكتاب الأبيض" الذي سمح بتسهيل الوصول إلى معلومات تخص مصروفات الجيش السنوية كما يحتوي على القيم المشتركة بين القيادة المدنية والقوات المسلحة للبلاد ومن الممكن القول بأن الكتاب الأبيض لم يكن له قوة مؤسسية واضحة إلا أن فكرته كانت فرصة أظهرت قدرة الجيش على تقبل رقابة المدنيين. رابعاً: زيادة مهنية الجيش التشيلي، فقد تم تدريب قوات الجيش على توقيت استخدام القوة وإلى أي مدى لهم الحق الحديث في السياسة، بالإضافة إلى اشتراكهم في عمليات حفظ السلام حول العالم والتي شغلتهم عن التدخل في الشئون السياسية للدولة. وبناء على ما تقدم يمكن القول أنه حتى في الظروف والسياقات السياسية والدستورية غير الملائمة، يمكن للسلطات المدنية تطوير استراتيجيات لإحداث بعض التغيير في العلاقات المدنية العسكرية، وليست الصعوبة في استحداث الوسائل والتكتيكات بل فى تحديد الأولويات ما بين إخضاع للمؤسسة العسكرية على المدى الطويل، أو إحداث استقرار سريع على المدى القصير، وما يمكن استخلاصه من أجل الحالة المصرية هو ألا يحاول المدنيين أو العسكريين النظر للطرف الآخر باعتباره خصما سياسياً، وإنما إعادة رسم حدود العلاقة على أساس التخصص الوظيفي وتقسيم العمل بما يضمن الاستقلال المؤسسي للقوات المسلحة ولكن في إطار من الرقابة السياسية المدنية.