فكرة عجز موازنة الدولة ليست فكرة مخيفة أو غير مسبوقة للاقتصاد المصرى أو الاقتصاد العالمى، فكثير من الدول قد تمر بفترات من العجز نتيجة نمو اقتصادى سريع قد يتطلب زيادة فى الإنفاق الحكومى لفترة تؤدى إلى ازدياد مستقبلى فى الإيرادات، أما فى حالات الثورات فإن الأزمات الاقتصادية أمر طبيعى نتيجة ازدياد النفقات وهبوط الإيرادات، فتوقع زيادة نسبة عجز الموازنة بعد ثورة 25 يناير هو أمر طبيعى، ولكن ما خيارات تمويل العجز؟ تلجأ الحكومات إلى تمويل عجز الموازنة من خلال سبل متعددة كبيع بعض الأصول الحكومية، أو تلجأ إلى التقشف لتقليل النفقات، أو الاقتراض الداخلى من البنوك والمؤسسات المالية، أو الاقتراض الخارجى من المؤسسات المالية العالمية أو غيرها، وعادة ما تقوم الدول بعد الثورات أو خلال الأزمات الاقتصادية إلى اتباع حزمة من الإجراءات تمثل عدداً من السبل والوسائل المختلفة مما سبق ذكره، ولكن كيف يتم تمويل العجز فى مصر؟ على غير المتوقع، فإن الحكومة المصرية لم تتبع حزمة من السبل لتمويل العجز ولكن اقتصر حلها على التركيز على الاقتراض الداخلى من البنوك والمؤسسات المالية المصرية، ولعل لذلك أثراً سيئاً ولكن له الكثير من المبررات الاقتصادية والسياسية تأتى على ثلاثة أوجه: الأول: من الصعب أو شبه المستحيل أن تقوم الحكومة ببيع الأصول الحكومية عن طريق الخصخصة أو ما شابه، فعلى الرغم من سرعة وفاعلية هذا التوجه إلا أن الوضع السياسى والاجتماعى العام فى مصر يقف بشكل رئيسى أمام هذا التوجه متأثرين بقصص الفساد الكبيرة. الثانى: فى ظل الوضع الاجتماعى المتدهور، والانفلات الأمنى والمظاهرات التى لا تتوقف، التى تمنع فكرة تقليص الدعم وتؤدى إلى زيادة مرتبات الموظفين، فإن فكرة التقشف وتقليل النفقات هى فكرة مستبعدة وتكاد تكون شبه مستحيلة. الثالث: فى ظل عدم الاستقرار السياسى فى المرحلة التى أعقبت الثورة التى شهدت على فترات متعاقبة الكثير من المجازر كماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء وأخيراً العباسية وكذلك الكثير من الحرائق والانفلات الأمنى، كل ذلك أدى إلى إرسال صورة سيئة عن الوضع السياسى والاقتصادى فى مصر وبالتالى أدى إلى عدم رغبة المستثمرين الأجانب فى الاستثمار فى السندات الحكومية. وبما أنه استصعب تمويل عجز الموازنة من الأوجه الثلاثة السابقة، فتبقى الاقتراض الداخلى كوسيلة رئيسية لدى الحكومة، ويتم تنفيذ ذلك عن طريق طرح أذونات وسندات حكومية يتم بيعها للبنوك والمؤسسات المالية المحلية التى تقوم بالاكتتاب فى هذه السندات لتمويل عجز الموازنة، وقد قامت الحكومة بإصدار ما يقرب من 400 مليار جنيه سندات حكومية، تم الاكتتاب عليها داخلياً فى الأشهر القليلة الماضية ولكن أغلب هذه الإصدارات كانت لفترات قصيرة تقل عن سنة وكذلك على سعر فائدة مرتفع يزيد على 17% فى أغلب الأحيان. وختاماً، فإن عجز الموازنة هو أمر واقع وازدياده أمر حتمى، ولكن المشكلة الحقيقية هى اقتصار تمويله على الاقتراض الداخلى، وبالأخص لفترات قصيرة وعلى سعر فائدة شديدة الارتفاع مما قد يأخذ إعادة هيكلته فترات طويلة وتكلفة باهظة.