مع دقات الثالثة عصرا، يودع السيد فؤاد، من قرية الشيخ سامح بالشرقية، أبناءه وزوجته فى هدوء، ثم يسير بخطى ثابته نحو محطة قطار الزقازيق، قاصدا القاهرة لتسلم مهام عمله بالخط الأول للمترو، يصل محطة الدمرداش فى الخامسة والنصف، ثم يتسلم قيادة المترو المتجه إلى المرج قبيل أذان المغرب بنحو نصف ساعة فقط، أدرك الرجل الخمسينى أن موعد الإفطار سيباغته داخل كابينة القيادة، فقام بإحضار وجبته من الشركة المصرية لقيادة وتشغيل المترو ليتناولها أثناء القيادة. «من زمان واحنا متعودين نفطر فى كابينة المترو، عشان الناس تعرف تاكل فى بيوتها»، هكذا يقول عم السيد فى بداية حديثه، قبل أن يكمل «أنا شغال فى المترو من 26 سنة، من أول ما بدأ فى التمانينات». كابينة المترو غير مكيفة، ولا توجد بها مراوح كهربائية وضيقة، تتسع بالكاد لجلوس السائق، الذى يركز فى أجهزة التحكم أمامه، مع إشارات المرور الخضراء بمسار الخط الأول. يزيل الرجل الخمسينى آثار العرق من على جبينه مستخدما يده، ويقول: «قطارات الخط الأول قديمة، مفيهاش تكييف، لا فى العربيات ولا حتى فى الكابينة لأن دا خط مفتوح، ما ينفعش فيه التكييف، لكن كباين قطارات الخط الثانى والثالث فيها تكييف». يصل السائق أخيرا إلى محطة مترو المرج، وينتظر تدوير القطار لكى يعود إلى حلوان مرة أخرى، تستغرق مدة الرحلة من المرج إلى حلوان ساعة وربع الساعة، بإجمالى 33 محطة بطول 42 كيلومترا، ورغم طول الرحلة لا يشعر الرجل بأى حالة ملل لأنه اعتاد على ذلك كما يقول. يبدأ السائق رحلته الطويلة إلى حلوان ويمر بالعديد من المحطات ناحية مصر الجديدة، ثم يتوقف فى محطة «حمامات القبة»، منتظرا فتح الإشارة الخضراء على يساره، ثوان قليلة وتتحول الإشارة الصفراء إلى خضراء، ومع ذلك لم يستطع السائق التحرك، بسبب عدم فتح إشارة أخرى على هيئة مثلث، تصدر إشارات متتابعة، صفراء اللون، يحاول السائق الاتصال بغرفة التحكم لمعرفة سبب غلق الإشارة وعدم السماح له بمواصلة السير، يهاتف السيد فؤاد أحد المراقبين بغرفة التحكم، وبسرعة يتم فتح الإشارة «أنا مقدرش أتحرك من غير ما يفتح ليّا الإشارة، غرفة التحكم دى مكانها فى رمسيس وبتابعنى أول بأول باللاسلكى وبالتليفون المحمول». يصل المترو إلى محطة الدمرداش، ثم يقول السائق بصوت مرتفع: «المحطة دى مكان تسليم وتسلم قيادة المترو، ولما بنتأخر بالليل فى رمضان بنقعد فى استراحة السواقين فى حلوان أو المرج، حسب خط السير» وتابع «لا بد أن يكون عدد «الخَدَمة» يقصد السائقين، زى بعضه فى حلوان والمرج فى تمام الخامسة صباحا، قبل انطلاق رحلات المترو». يضيف السيد فؤاد: «احنا «خَدَمة» يعنى قطاع خدمات للجمهور، لكن الناس لا تقدر ذلك، وبنشوف قلة أدب وتعدى بالألفاظ وقذف بالحجارة كل يوم، فى محطة السادات يوجه بعض الشباب أشعة الليزر فى عينيّا، ولما القطر بيتأخر شوية بييجوا يشتمونا مع إننا ملناش ذنب، الإشارة بتكون مقفولة قدامى وأنا مقدرش أمشى من نفسى وهما مش فاهمين كدا». بعد دخول النفق وقبل وصول القطار إلى رصيف محطة الشهداء، يشير السائق بيده نحو المحطة، ويقول غاضبا: «المحطة دى هى والسادات من أصعب المحطات اللى بعدى عليها بسبب الزحمة، لأن الخط الأول هو اللى شايل معظم الركاب، والمترو بيتأخر فيها غالبا بسبب الزحام الشديد ومسك الأبواب». يصمت قليلا لمتابعة غلق الأبواب وإشارة المرور فى محطة الشهداء، ويضع يده على بعض الأزرار أمامه، ثم يبدأ السير من جديد. ويكمل قائلا «الاستراحات بتاعتنا كويسة ومكيفة، بنخلص شغل الساعة اتنين أو اتنين ونص، وبنتسحر ونصلى الفجر وبنريح ساعة كدا، وبنقوم تانى نروح الحوش، نطمن على القطر ونتوكل على الله وبنفضل فى الشغل لحد الساعة 9 ونص. يعنى تقريبا بنكون مطبقين». يشكو «السيد» من السماح للباعة الجائلين والمتسولين بدخول عربات القطارات، مشيرا إلى أن ذلك يعطى صورة سلبية عن المترو، ويستطرد السيد فؤاد قائلا: «قطارات الخط الأول قديمة صحيح بس بيتعملها صيانة دورية عشان الأعطال». وعن تدريب السائقين يقول فؤاد: عملت مساعد لمدة 12 سنة واتدربت بمعهد السائقين 4 سنوات، «مفيش عجز فى السواقين زى السكة الحديد اللى فيها عجز كبير، كما أن قيادة المترو تختلف عن القطارات، لأن المترو يعمل بالكهرباء وقطار السكة الحديد يعمل ب«الديزل». إلا أنها تتشابه معها فى وجود بعض أجهزة التحكم والقيادة، مثل جهاز «رجل الميت» الذى نضع أرجلنا عليه باستمرار، حتى لا يتوقف القطار عن السير، أهمية هذا الجهاز تكمن فى ضمان توقف القطار فى حالة وفاة السائق بشكل مفاجئ «عشان كدا لازم تدوس عليه عشان غرفة التحكم تعرف إنك صاحى». يتذكر «السيد» أيام ثورة يناير، ويقول «كانت أصعب أيام عدت علينا، عشان البلطجة وحظر التجول والاعتصامات..الناس كانت بتقطع سكة المترو احتجاجا على قطع الكهرباء وطفح المجارى، كانت حاجة وقف حال». يختتم «السيد» حديثه قائلا: «الحمدلله مهنتنا مجزية، ومرتبها كويس وبيكفينا، احنا ما نعرفش نشتغل حاجة تانية غير قيادة قطارات المترو، بسبب جداول التشغيل المتغيرة، ومع ذلك لم أفكر يوما ما فى الإقامة بالقاهرة بالقرب من محل عملى، بسبب الزحام الشديد بها لأننى أٌفضل الإقامة فى قريتنا بالأرياف بعيدا عن زحام وصخب العاصمة. نفق الخط الأول مظلم، لا تضىء به إلا بعض لمبات الطوارئ، لكن السائق تعوّد على هذا الظلام وعلى طول الرحلة.