أثناء زيارتي الأولى لأمريكا شعرت بإحساس مختلف.. رهبة.. توتر.. حرارة من الجسم في درجة حرارة 7 تحت الصفر، وسألت نفسي لما كل هذا التوتر؟ لما لم أشعر بمثل هذا الشعور في رحلتي لأوروبا، التي بدأت في باريس وانطلقت منها لعدة نقاط في فرنسا وايطاليا وسويسرا وإسبانيا ؟ لكن أثناء تحركي للمنزل الذي نزلت فيه في واشنطن أدركت الفرق.. أمريكا بلد لا تستطيع أن تشعر فيه بقصه حب.. جافة.. كل امرئ فيها عنده شأن يغنيه.. لا أحد ينظر إليك.. كل واحد يتحرك بسرعة.. يعمل دون كسل. لكن في باريس، أو ضواحي باريس، تجد المواطن ينظر لك بحب.. يلقي عليك السلام أو يرحب بك.. يشجعك على الرياضة لو كنت تتريض بالحديقة.. تنظر لجمال المنازل التي صنعت أغلبها في القرن الماضي، واهتمام بالأشجار لدرجة أنهم يضعون لها تقويم حتى يقوم الجذع بشكل مستقيم ويصبح جميلا للمشاهد.. تجدهم يهتمون بصنع الله في الطبيعة.. ويقولون إنه "ناتورال" بالفرنسية وتجد مدينة مثل موناكو بجنوب فرنسا يزرعون فيها أشجار اليوسفي في الطرقات، لكي يتسنى للجميع الأكل منها، ويقومون بإذاعة الأغاني والموسيقي من إذاعة مونت كارلو في الشوارع، ليستمتع المواطنين. لم أشعر برهبة، بل بالعكس كنت أتجول في الحدائق والطرقات بأمان تام.. ما زالت أمريكا كانت الحلم بالنسبه لي، وزيارتي الأولى لنيويورك استقبلتني بأمطار غزيرة ووجبة عشاء مع صديقي طارق من مطعم بورتيريكي تسمي بوريتس.. كانت حارة مليئة بالبهارات في ليلة ممطرة شديدة البرودة.. تنبئ -كما حدثني صديقي- بنوبة صقيع وثلوج ستضرب البلاد الأيام المقبلة.. بدأت الدراسى بالاستوديو والجامعة هناك، وبدأت تدريبات التمثيل لمنهج ميزنر السينمائي مع مدربتي التي أحببتها بشدة، أستاذتي الإيرلندية الأصل مونيك فان كيركوف.. كان لديها أسلوبا غير اعتيادي في توصيل المعلومات للمبتدئين في المجال، تبسط المعاني وتدخل معها فورا إلى بيت القصيد.. وزملائي من مختلف دول العالم هناك، "معين" من إيران الذي يدرس السينما كمخرج و يدرس التمثيل لتوجيه ممثليه، وأيضا العديد من دول كثيرة، لكن يجمع بيننا حب التمثيل. ظللت فترة طويلة تحولت فيها إلى طالب بساعات النهار، ومتجول بدأ من العصر حتى أول الليل، وخصوصا لمتاحف أمريكا المختلفة مثل المتروبوليتان، أو متاحف السينما أو التاريخ المعاصر والقديم.. انبهرت بتقديرهم لتماثيل أجدادنا ووضعها في المقام الأول.. كلما قارنت بين رحلتي الأوروبية والأمريكية أشعر بفرق.. لماذا أحببت المناخ الأوروبي أكثر؟ لماذا تعلقت روحي بضواحي باريس "بورت دي لي لا" وغيرها من مدن الجنوب "مارسي، ونيس، وكان، وكاسي". عندما زرت موقع كنيسة القلب المقدس أو "الساكري كير" في قلب باريس، انتابني شعور مفاجيء أني أعرف هذا المكان، وحدثت صديقتي المقربة في الرحلة عن ذلك، وقلت لها إني أعرف هذا المكان، وأعرف أنه يوجد هنا مكان يقوم فيه الناس بصناعة الشموع ورسم الأشخاص، وظللت أتحرك بسرعة بين الطرقات والمنازل حتى وصلنا بالفعل لمكان يقوم بتلك الصناعات، ووسط ذهول أصدقائي وكلامهم حول أني بالتاكيد أعرف المكان وأحدثهم بأن تلك أول زيارة لي في باريس، قالت صديقتي "لعلك عشت هنا من قبل في حياة سابقة"، فاستغربت وقلت "كيف؟" قالت إنها مؤمنة بفكرة أن الأرواح تتناسخ عبر الأجساد، لكن تظل الذكريات موجودة بالروح، وأن الروح تتناسخ عبر الأجساد إلى يوم الحساب بهدف إعادة محاسبة النفس، وإعطائها فرصة أخيرة بالعالم لتصفية القديم وإصلاحه، كما لو كان أن الكمال في علاقتك بالله البعض يصل إليه من حياة واحدة، والبعض يحتاج لعدة تجارب في الحياة، وأن ذلك الفكر يوجد في الصوفيى، على أن الروح لكي ترتقي إلى مرتبة أعلى تحتاج إلى تجارب عديدة.. استغربت حديث صديقتي التي بدت مؤمنة به تماما، وسألنا سكان المنطقة عن عمرها فقالوا إنهم يصنعون الشموع منذ 600 عام هنا، وأن المنطقة عليى نفس حالها لم يتغير فيها أي شيء، وأن بعض البيوت عمرها يتعدى ال 500 عام. نظرت حولى وأحسست بإحساس غريب، وقلت "ربما عشت هنا من قبل بالفعل"، ثم تداركت الموقف وتحركنا.. وأثناء عودتنا مررنا بدار المطربة "داليدا"، الذي أصبحت ملك لأخيها المستفيد الوحيد والمتهم في قضية انتحارها، لأنه ظل يؤنبها نفسيا مما أدى لسوء حالتها حتى انتحرت، ورغم تبرئة المحكمة له ظل مذنبا في أعين الفرنسيين. يااااه.. ذكريات كثيرة تطل من الماضي في طرقات باريس، لا أشعر بها أثناء تجولي بشوارع أمريكا.. ربما عنصر التاريخ.. عنصر الزمن.. عنصر البشر.. لا أعلم.. ولكني أصبحت أعرف جيدا أني كنت هنا يوما من الأيام. وللحديث بقية. À toute à l'heure يمكنكم التواصل مع الكاتب من هنا https://www.facebook.com/hossam.dagher.1 https://mobile.twitter.com/hossamdagher4 https://www.instagram.com/hossam.dagher/