مستقبل وطن يطلق أضحى الخير لدعم الفقراء    وزير الدفاع يلتقي وزير خارجية جمهورية بنين    وعي المصريين الحصان الرابح ضد أكاذيب أجندات الإخوان الإرهابية على سوشيال ميديا    ذبح 148 رأس ماشية لتوزيعها على الأسر المستحقة في الشرقية خلال عيد الأضحى    قرار هام من الحكومة بتطوير وتحديث الأتوبيس النهري    نائب رئيس مؤتمر المناخ والبيئة تدعو المجتمع العربي للتحرك في مواجهة التحديات المناخية    رسميًا إطلاق خدمات الجيل الخامس بمصر.. كل ما تريد معرفته عن السرعة والتحميل والباقات    لضبط التنقيب العشوائي.. إزالة 32 طاحونة ذهب بوادي عبادي في حملة موسعة بإدفو    «الإحصاء»: 16.5% معدل التضخم السنوي خلال مايو (تعرف على نسبة زيادة السلع والخدمات)    «مدبولي» يوجه باتخاذ التدابير اللازمة خلال فترة إجازة عيد الأضحى المُبارك    الدفاع الروسية: دفاعاتنا الجوية أسقطت 109 مسيرات أوكرانية    الرئيس السيسي ونظيره الإماراتي يبحثان تعزيز التعاون الثنائي بالمجالات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية    عراقجي لأمين عام حزب الله: إيران مهتمة بمساعدة لبنان    زلازل وعواصف وجفاف.. هل تستغيث الأرض بفعل تغيرات المناخ؟    بورتو منافس الأهلي يكشف عن زيه الاحتياطي فى مونديال الأندية.. فيديو    لوكا مودريتش يقترب من الانتقال إلى ميلان بعد نهاية مسيرته مع ريال مدريد    «قد يحسم أمام العراق».. حسابات تأهل منتخب الأردن مباشرة ل كأس العالم 2026    بيكهام ينضم إلى بعثة الأهلي المتوجهة إلى أمريكا الليلة    بيراميدز يجدد عقد المغربي وليد الكرتي موسمين    نجم الزمالك السابق يحذر من خماسي بيراميدز قبل نهائي الكأس    الزمالك يفسخ التعاقد مع مدافع الفريق رسمياً    المشدد 7 سنوات لأب ونجله لتعديهم علي شخص وإصابته بعاهة مستديمة بشبرا    الإسكندرية ترفع حالة الطوارئ بشبكات الصرف الصحي استعدادًا لصلاة عيد الأضحى    وفاة الضحية الرابعة في حادث كورنيش المقطم    ارتفاع تدريجي ل درجات الحرارة.. بيان مهم بشأن حالة الطقس يوم عرفة (تفاصيل)    قصور الثقافة تنظم برنامج فرحة العيد للأطفال بالمناطق الجديدة الآمنة    «بيحبوا المغامرة».. 4 أبراج تستغل العيد في السفر    وزير الثقافة ل«الشروق»: لا غلق لقصور الثقافة.. وواقعة الأقصر أمام النيابة    إطلاق البوستر الرسمي لفيلم "أخر راجل في العالم"    فيلم جيهان الشماشرجي وصدقي صخر "قفلة" ينافس مع 300 عمل بمهرجان Palm Springs    دعاء يوم التروية 2025.. أدعية مستحبة ومعلومات عن فضل اليوم الثامن من ذي الحجة    الصحة: قرارات فورية لتيسير علاج المرضى ب"جوستاف روسي"    للوقوف على الخدمات.. لجنة بالمجلس القومي لحقوق الإنسان تزور مستشفى أهل مصر    أول تحرك من «الطفولة والأمومة» بعد تداول فيديو لخطبة طفلين على «السوشيال»    البابا تواضروس الثاني يهنئ فضيلة الإمام الأكبر بعيد الأضحى المبارك    توريد 592 ألف طن من القمح لصوامع وشون الشرقية    تبدأ بنقل وقفة عرفات .. تفاصيل خريطة عرض شاشة MBC مصر في عيد الأضحي    البابا تواضروس يهنئ رئيس الوزراء بعيد الأضحى المبارك    تزايد الضغط داخل مجلسي الكونجرس الأميركي لتصنيف جماعة الإخوان "إرهابية"    مجلس الأمن يصوت اليوم على مشروع قرار لوقف إطلاق في غزة    بالأسماء.. 58 مركزًا لإجراء فحوصات المقبلين على الزواج في عيد الأضحى    28 فرصة و12 معيارًا.. تفاصيل منظومة الحوافز الاستثمارية للقطاع الصحي    سيد رجب يشارك في بطولة مسلسل «ابن النادي» إلى جانب أحمد فهمي    مسابقة لشغل 9354 وظيفة معلم مساعد مادة «اللغة الإنجليزية»    تحرير 911 مخالفة للممتنعين عن تركيب الملصق الإلكتروني    محافظ أسيوط يشارك أطفال معهد الأورام فرحتهم بقرب حلول عيد الأضحى    أحكام الحج (12).. علي جمعة يوضح أعمال أول أيام التشريق    جبران: حريصون على استقلالية النقابات وترسيخ ثقافة الحقوق والحريات    أنشطة ثقافية ومسرح وسينما فعاليات مجانية لوزارة الثقافة فى العيد    أيام الرحمة والمغفرة.. ننشر نص خطبة الجمعة المقبلة    «اللهم املأ أَيامنا فرحًا ونصرًا وعزة».. نص خطبة عيد الأَضحى المبارك 1446 ه    تكبيرات عيد الأضحى 2025.. تعرف على حكم التكبير فى العيدين بصيغة الصلاة على النبى    مصرع شخص وإصابة 21 شخصا في حادثين بالمنيا    زيادة الرسوم الجمركية الأمريكية على واردات الصلب والألمنيوم إلى 50% تدخل حيز التنفيذ    موعد إعلان نتيجة الصف الثالث الإعدادي 2025 في الجيزة ترم ثاني    كامل الوزير: انتقال زيزو للأهلي احتراف .. وهذا ما يحتاجه الزمالك في الوقت الحالي    «شعار ذهبي».. تقارير تكشف مفاجأة ل بطل كأس العالم للأندية 2025    «الإفتاء» تنشر صيغة دعاء الخروج من مكة والتوجه إلى منى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«كأن الحياة أبد».. عن أنفاس المخرجين داخل أفلامهم (ملف خاص)
نشر في المصري اليوم يوم 23 - 12 - 2013

أحياناً، لا يَبدو الاختصار مُخلاّ إذا قُلنا أن السينما، في نهايةِ الأمر، هي «نَفَس»!
تتكوّن الأفلام من عملية خَلق مُستمرَّة، من ورقٍ إلى صورة، ومن صورةٍ إلى صورٍ مُتتابعة، خلال المَرحلتين.. يكون هُناك المُخرج هو ذلك الشَّخص الذي يَضَع «نَفَسه» بداخل العَمل كي يَمنحه الحياة. «النَّفَس» الدَّاخل والخارج، الشَّهيق والزَّفير، رُوح الفيلم وإيقاعه.
«أوروسون ويلز»، صاحب «المواطن كين» وأحد أهم رموز السينما، كان يقول أن «الأفلام الجيدة يجب أن تشبه مخرجيها»، لذلك فإن المخرجين.. لا يضعون في أفلامهم فقط ذكريات وتفاصيل وحواديت «يُحُوشْهَا» الزَّمن معهم، فهم، قبل كل شيء، يَضعون «حِسُّهم ونفسهم». فيَنْتَظم إيقاع الصور بحسبِ شعورهم بالعالم.
«ويلز» يَصلح كنموذجٍ للأمر، يَقول أن «أكثر أفلامه التي كرهها هي الأفلام التي صنعها مُضطراً»، الناس لا يمكن أن يُشبهوا إلا أنفسهم، ذلك الفارق الملموس بين الصدق والإدعاء، المحبَّة والفتور، بين أن تصنع شيئاً لأنك «تريد» أن تصنعه أو لأنك «يجب» أن تصنعه، يرى «ويلز» أن «أي شيء تفعله بمحبَّة يظهر فيه ذلك، حتى لو كان كوباً من القهوة»، الأفلام لا تشذ عن ذلك أبداً، ضع فيها روحك وسيكون ذلك واضحاً، لأن «خام السينما هو أنت، هو انعكاس لصورتِك» «ذلك الخام أقرب للأرضِ البور، على الفنان زراعته، أن يجعله حيَّاً، وأن يعيش أبدا».
هذا المَلَف عن ستة مخرجين تُشبههم أفلامهم، لأنهم وضعوا فيها «نَفَساً وحِسَّاً» واضحاً، ولم تَكُن لتخرج بتلك الصورة لو كان أي شخص آخر وراءها.
نَفَس العَجائر: كلينت إيستوود.. من يَعِش ثمانين حولاً لا يَخجل من البكاء
في عامِ 1989، قررت رابطة الصحافة الأجنبية مَنح «إيستوود»، في عامه ال59، جائزة خاصة عن مُجملِ مسيرته، كان الظن حينها أن عالمه يَنتهي، وأن الرَّجَل الذي كان رمزاً لأفلامِ «الويسترن» طوال عَقدين سيبرح المكان إلى الظل بعد أن يُكمل عقده السادس، لَم يَدر بخلدِ أحد أن تلك كانت البداية.
الإرث السينمائي الحقيقي الذي سيتركه «إيستوود» هو في الحقيقة ما بدأ في صناعته بعد سنّ الستين، بالتحديد ثلاثة أفلام عَظيمة ستبقى: Unforgiven عام 1992، Mystic River عام 2003، وMillion Dollar Baby عام 2004.
لم تكن تلك الأفلام لتتحقق إلا بنفسٍ عَجوز وبطئ، لرجلٍ امتلأ قلبه بالوَحْشَة، وتركت له الأيام الكثير من النَّدم، ولم يَعد يخجَل من البُكاء.
تَجاعيد وَجه إيستوود، الخيوط الدقيقة على يديه، حولت قصصاً شبة عادية إلى أفلامٍ عَظيمة، لم يَكُن ليصنعها إلا رجلٍ عَجوز، فيُعطيها الدّفعة الشعوريَّة اللازمة في كل ثانية، فتكون الأفلام هي انعكاس له: في صورةٍ وليام ماني رجل العصابات والغرب الأمريكي الذي يفتقد زوجته التي أصلحت قلبه، وفي صورة الأصدقاء الثلاثة الذين لم يبارحهم ماضيهم رغم عقود طويلة قد مرت ولم تترك لهم سوى الأسى، وفي صورة «فرانكين» - جسده «إيستوود» عام 2004 وهو في الرابعة والسبعين- الذي علمته الأيام أن يخاف الأمل.
ولم يكن هناك شيء يُفسر لأعضاء رابطة الصحافة الأجنبية، أو لغيرهم، كيف يمكن أن تبدأ المسيرة الحقيقية لمخرجٍ بعد سن الستين، والإجابة الحقيقية الوحيدة قالها «إيستوود» بشكلٍ عابر ذات مرة: «لقد عشت الكثير من الوقت، صرت أخاف، أشعر بالوَحْشَة، يداي ترتعشان، أحاول فقط أن أأنس بالحَكِي عن أناسٍ يخافون ويستوحشون وترتعش أيديهم».
نَفَس العابِر سريعاً: ويس أندرسون.. كائن لا تُحتمل خِفّته
في بداية حياته، فكَّر «ويس أندرسون» في دراسة الفلسفة، «بدت شيئاً مهماً يمكن أن أهتم به»، ليبدأ بالفعل في الدراسة، «ولم أفهم حتى ما تتكلم عنه»، فينصرف عنها، «وجدت نفسي أكتب قصص قصيرة»، والأمر بدا أنه يروقه، «لم أفعل شيئاً خلال تلك الفترة إلا أن أحكي»، حينها علم أن هذا هو ما يريد فعله لبقية حياته، «أريد أن أحكي حكايات عن أُناسٌ يحاولون أن يكونوا سعداء».
«أندرسون» يُحب السفر، والموسيقى، والألوان، وهو يُحب أبطال أفلامه أيضاً، «أشعر بنفسي أكبر معهم »، ولذلك فهو يريد أن يجعلهم سعداء، «لأنهم ببساطة يستحقون ذلك».
لذلك، ففي كُل فيلم من أفلامه السبعة، هناك احتفالاً بَصرياً، وصَخب لا نهائي، وعلى عكس «إيستوود» مثلاً، تتمتلئ الأفلام باحتفاءٍ مُستمر بالحياة، نَفْسٌ لاهِثة، تلاحُق ما تُحب، دون يأس. ويبدو كل شيء مُتاح.
حتى في اللحظات الحَزينة جداً في أفلام «أندرسون»، كانتحار «ريتشي تينينباومز» على أغنية Needle in the Hay لإليوت سميث، أو افتقاد «روزميري كروس» لزوجها في Rushmore، أو رحيل «ستيف زيزو» في The Life Aquatic، يتعامل معها الرجل بخفة الفتية، «الأشياء السيئة تحدث، ونحن علينا تجاوزها»، كما يقول السيد «فوكس» في Fantastic Mr. Fox، هكذا بتلك البساطة!
«أندرسون» يَعلم أن هناك الكثير من الحزن في العالم، ولكنه يعلم أيضاً أن هناك أماكن لم يزرها وموسيقى لم يسمعها وألوان لم يستخدمها بعد. وبخفَّة ونفسٍ لَعِب يحاول اكتشاف ذلك في كل فيلم يُخرجه.
نَفَسٌ ثائِر: سيرجي آيزنشتاين.. السينما هي الثورة
الأشياء الصغيرة يُمكن أن تُغير العالم، بائع تونسي متجول يَحرق جسده فتندلع عدة ثورات في البلدانِ العربية، من الصعب تفسير كيف حدث ذلك.. ولكنه حَدث
وبالمِثل، فإن إضراب عدد من العمال الروسيين اعتراضاً على فصل زميلين أدى، بعدها ب12 عام، لثورة شيوعيَّة غيَّرت في التاريخ
سيرجي آيزنشتاين كان في السابعة حين جرى الإضراب، وفي التاسعة عشر حين قامت الثورة، «كل ما عرفته خلال تلك الفترة كان الغضب»، لذلك.. فحين وصل إلى السابعة والعشرين.. خلَّد أرواح مئات العمَّال الذي مَهَّدوا الطريق، في فيلمه الأهم «المُدرَّعة بوتميكن» عام 1925.
يُفتتح الفيلم بجملة «لينين» بأن «الثورة هي الحرب، وبين كل حروب التاريخ.. هي الحرب الوحيدة القانونية والعادلة والعظيمة»، لا تبدو الثورة عند «آيزنشتاين» نقيَّة أو نزيهة أو تدعّي السلمية، الثورة –كما في معناها لغوياً- هي الغضب، لذلك فإن فيلمه يَنْبُض بتلكَ الرُّوح، كأنَّه يُعايش مرة أخرى قصة البحَّارة المضربون الذين لَم يَرهم، يتنفس معهم الغضب والبارود، ويحول الخَيبة والحسرة إلى أمل وانتصار.
لاحقاً، بعد «بوتمكين»، لم يتوقف «آيزنشتاين» عن صنع أفلاماً تُلامس رُوح الثورة وتحكي عنها، وكان يُدرك أنه يُدين لها بكل شيء، «أصبحت ما أنا عليه بفضل كل ما حدث، لقد منحتني الثورة أثمن شيء في حياتي.. جعلت مني فناناً».
وحين مات صغيراً، في الخمسين من عمره فقط، ارتبط اسمه بشيئين: الأول هو المونتاج.. بوصفه أكثر من أسهم في تطويره في تاريخ السينما، والثاني كان الثورة، حتى أن مخرجاً فرنسياً كبيراً ك«جان لوك جودار» قال ذات مرة، حين طُلب منه في أواخر الستينات أن يصنع فيلماً عن «ثورة الطلبة» في باريس: «الثورة؟ يمكن لنا أن نشاهد أفلام آيزنشتاين».
من الصَّعب التفسير ذلك، ولكن كل شيء بدأ بإضراب صغير لمجموعة من العمال اعتراضاً على فصل اثنين من زملائهم في عهد القيصر!
نَفَس الناحت في الزمن: شادي عبدالسلام.. كصبرِ أيُّوب
لَم يَكُن «شادي» يصنع الأفلام، كان في الحقيقية يَنْحَتها.
لذلك، فليس من الغريبِ لمسيرته أن تحمل فيلماً واحداً طويلاً، ولا من الغريب أن يَعيش هذا الفيلم طويلاً طويلاً، ويُخلّد معه صاحبه.. فيبقى.
لم يتعلَّم شادي، حين درس صغيراً، فنون النَّحت والعمارة فقط، هو، قبل كل شيء، تعلَّم «الصبر»، أن يَفعل كل شيء ببطءٍ جَميل.
لذلك فقد عُرِفَ عنه الدقَّة المتناهية والنَّفَس الطويل، ارتبط اسمه بكل الأفلام التاريخية التي صُنِعَت في مصر، وحين أتت الفرصة ليصنع فيلمه هو، استلهمه من الأثر، من جُملة عابرة في إحدى الدعوات للآلهة المصرية القديمة: «يا من تذهب سوف تعود/يا من تنام سوف تصحو/يا من تمضي سوفَ تُبْعَث»، ثم بدأ في نَحت «المومياء».. لستِ سنواتٍ أو يزيد.
الفيلم، حين خرج إلى النُّور، كان بطيئاً، ساحراً ويَسِير على مَهلٍ، مثل صاحبه الذي عَلِمَ أن هذا هو ما سيُبقيه يوم أن تُحصى السنين، ورغم الصورة المأساوية التي تكتمل بها الحكاية، حين فَشَل ل12 عام في إيجاد تمويل لفيلمه الثاني «إخناتون»، ومات مَقهوراً، إلا أن لحظة ترميم فيلم «المومياء» عن طريق مؤسسة «مارتن سكورسيزي» عام 2005 –ووصفه حينها بأنه «أحد أعظم الأفلام التي شاهدها في حياته»- كانت اللحظة التي بدا فيها أن شادي لم يَمُت بل صَعد، ثم «عاد وصَحَى وبُعث» كما يقول الابتهالِ في كتاب الموتى، كأن أنفاسه قد بَقت في صور.. كأن الحياة أبد.. ولو بفيلمٍ واحد.
نَفَسٌ غاضب: سيدني لوميت.. أكثر من 12 رجل
في نهاية الستينات، كانت أمريكا تمر بمرحلة مُضطربة من تاريخها، الفشل الكبير في فيتنام أنتج جيلاً مُحبطاً، وكل شيء في الداخل بدا عرضه للانهيار، «كنا كجسدٍ مَسْجِي يَنخره السوس» كما يصف المخرج «سيدني لوميت».
«لوميت» لم يبدأ مسيرته في ذلك الوقت، لم يكن ضمن «أصحاب اللُّحى الخمس»* الذين غيَّروا السينما الأمريكية، ولكنه، بشكلٍ أو بآخر ورغم سنوات طويلة تفرقه عنهم، كان منهم.
ورغم إخراجه في وقتٍ مبكر من حياته فيلماً عظيماً ك12 Angry Men، إلا أن السبعينات حملت الثقل الحقيقي في مسيرة «لوميت»، قارب الخمسين من عمره نعم ولكنه يَحمل الجذوة التي تجعله جزءً من حركة سينمائية كبرى تغيّر هوليوود وربما أمريكا نفسها، بدأ يصنع أفلاماً أساسها الغضب: فساد الشرطة في Serpico عام 1973، القهر المُجتمعي الذي يدفع رجل عادي إلى التحول لمجرم كي يحمي حياة أسرته في Dog Day Afternoon عام 1975، ثم فيلمه الأعظم Network عام 1976 الذي يحمل «مانفيستو الغضب» في واحد من أكثر مشاهد السينما أيقونية، حين يَقَف «هوارد بيل» أمام شاشات التلفزيون ويطلب من الناس: «قوموا من على كراسيكم، اخرجوا رؤوسكم من النوافذ، اصرخوا لآخر ما تستطيعون.. أنا غاضب ولم أعد أحتمل ذلك بعد الآن».
تلك الأفلام تبدو الآن أقرب ل«ثلاثية غضب» متصلة ببعضها، غضب مرتبط بشخص صانعها قبل كل شيء، ولم يكن غريباً أن يسترجع «لوميت» مسيرة حياته، وحين يأتي عند السبعينات يصفها بجملة واحدة: «كنت غاضباً، لم أجد شيئاً أفضل من أصنع أفلاماً عن رجالٍ غاضبين».
نَفَس المُتَيَّم: عباس كياروستامي.. كيف نَشفى من الياسمين؟
تَحكي الأسطورة أن الخليفة الأموي مروان بن عبدالحكم قد سمع بأمرِ «ليلى العامرية»، التي تُيّم المجنون في حُبها، فأراد أن يرى تلك المرأة التي تدفع رجلاً للجنونِ، وحين أحضرها شَعَر ببعض الإحباط، وجدها «عادية»، لا شيء مميز فيها، ولم يستطع منع نفسه من التساؤل عن السبب الذي دَفَعَ شاعراً ذو شأن ك«قيسِ بن الملوح» للهيام بها، فأجابت بأنه يجب أن يراها بعينِ «قَيس» كي يَفهم.
شيءٌ من هذا القبيل يَربط المخرج عباس كياروستامي بمدينته، شيء يَجعله يَعيش حياة الترحال خلال السنوات الأخيرة، في مُدنٍ أجمل وأهدأ، ويصنع أفلاماً في طوكيو وباريس، ولكن رغم ذلك يَحِن لما يمثله البيت، فيقول ذات مرة «أعتقد أن المُدن تُشبه قلوب سكانَها، ولطهرانِ قلبٌ طيّب». والسَّامِع لم يفهم تحديداً، كان له أن يرى المَدينة بعينِ «عباس» كي يَفهم.
تلك المَدينة التي مَنَحته الوَنَس والرفقة، ومَنحها وضع اسمها على خريطة السينما العالمية، وقيادة جيل كامل من مخرجي السينما الإيرانية نحو أن يُصبح لهم فنهم وعالمهم وصوتهم الخاص، ويَسمع الجميع لهم.
وفي كُلّ مرة، كانت المَدينة وناسها هم الأساس في أفلامِ «كياروستامي»، هم التجربة والحكاية التي تنسج نفسها، شيء يرتبط بشكل وَثيق بعملية صناعة الفيلم عنده، والمختلفة عن أي صانع أفلام آخر، فهو لا يتحرك من ورقٍ ثم صورة، ولكنه يبدأ من الناس ثم يأتي كل شيء بعد ذلك.
«كياروستامي» لم يَكتب أي سيناريو خاص بأفلامه، هو يَبني فقط تفاصيل شخصية ما في رأسه، ثم يبحث عن مثيلٍ لها في الواقع، وحين يجده.. يصادقه ويجاروه، لستة أشهر على الأقل، يَخلط الخيال الفوضوي في رأسه.. بالتفاصيل الواقعية التي يَحْياها يومياً، لا يقوم ببروفات عمل أو كتابة حوار مُحدد، فقط في لحظةٍ ما، «بعد أن نعرف بعضنا جيداً، أنا وبطلي»، يبدأ التصوير، «لست مُخرجاً بالمعنى المَفهوم، أصبح أقرب للصديق، لا أُدير الممثلين، أتركهم هُم يديرونني»، وفي النهاية لا يُخرج الفيلم كحكايةٍ تُحكى، ولكن حَياة تُعاش.
أمر يُمكن مُلاحظته في كُل أفلامه العظيمة بلا استثناء، الناس يتصرفون بحريتهم وطبيعيتهم، في «الحياة تستمر» أو «بين أشجار الزيتون»، في «طَعم الكرز» أو –طبعاً- «كلوز آب»، وهو شيء لن تجده في فيلميه الأجنبيين Certified Copy أو Like Someone in Love، صحيح أن بهم –بشكل تِقَني- كل ما مَيزه.. ولكنه يبدو مُقيداً فيهم، كأن آخر يُحاكي أسلوبه، هذا شيء لا يُفسَّر إلا ب«النَّفس»، الحريَّة التي يتحرَّك بها في أرضٍ ضيّقة يعرفها، والتقيُّد الذي يَحْكَمه في أرضٍ أوسع.. ولكنها غَريبة.
«كياروستامي» نفسه يُدرك ذلك، يبدو مُنتمياً لنظرية شاعرية عن صناعة الأفلام، فقد أكمل حَديثه عن المُدن التي تُشبه قلوب سُكانها بأنه «عَلَم منذ وقت طويل أن السينما ليست الحكاية، ليست السرد، ليست التفاصيل، السينما الحقيقية بالنسبة لي هي أنفاس الخلائق».
وبعد، لا يبدو أننا قد نَشفى من الياسمين أبداً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.