بدأت أحداث ثورة «الحَرّة» عندما قرر أهل المدينة، من الأنصار، خلع «يزيد»، فقاموا بطرد ولاته، وولوا على قريش (مكة): عبدالله بن مطيع، وعلى الأنصار (المدينة): عبدالله بن حنظلة بن أبى عامر. ويحكى صاحب البداية والنهاية أن الأنصار اجتمعوا عند المنبر، فجعل الرجل منهم يقول: قد خلعت «يزيد» كما خلعت عمامتى هذه، ويلقيها عن رأسه، ويقول الآخر: قد خلعته كما خلعت نعلى هذه، حتى اجتمع شىء كثير من العمائم والنعال هناك، ثم اجتمعوا على إخراج عامل «يزيد» من بين أظهرهم وهو عثمان بن محمد بن أبى سفيان، وعلى إجلاء بنى أمية عن المدينة. ولمواجهة هذا الموقف اجتمع بنو أمية فى دار مروان بن الحكم، وأحاط بهم أهل المدينة يحاصرونهم. واعتزل عن هذه الثورة كل من على بن الحسين زين العابدين، وكذلك عبدالله بن عمر. وقد قال ابن عمر لأهله: لا يخلعن أحد منكم «يزيد»، وأنكر على أهل المدينة مبايعتهم لابن مطيع وابن حنظلة على الموت، وقال: إنما كنا نبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا نفر، وكذلك لم يخلع «يزيد» أحد من بنى عبدالمطلب، وقد سئل محمد بن الحنفية فى ذلك، فامتنع أشد الامتناع وناظرهم وجادلهم فى «يزيد» ورد عليهم ما اتهموا «يزيد» به من شرب الخمر وتركه بعض الصلوات. يستطيع المحلل أن يفسر اعتزال على بن الحسين لهذه الثورة بالخوف، وهو الذى رأى بأم عينيه قسوة بنى أمية فى «كربلاء»، بالإضافة إلى حداثة السن، لكن موقف عبدالله بن عمر، ومحمد بن الحنفية يبدو عصياً على التفسير بعض الشىء، اللهم إلا إذا أخذنا فى الاعتبار، الرغبة فى درء الفتن بعد أن هدأت الأمور بانتقال الحكم، ولو كان بحد السيف، إلى بنى أمية، وقد تكون الغيرة القبلية قد عملت عملها، بعد أن رفع الأنصار راية التمرد على بنى أمية، وهم جزء من المركّب القرشى، وزعماء الحزب المكى الذى ينتمى إليه فى النهاية عبدالله بن عمر ومحمد بن الحنفية. وبعد أن احتدم الأمر وشعر بنو أمية فى المدينة بالخطر المحيط بهم، كتبوا إلى «يزيد» بما هم فيه من الحصر والإهانة والجوع والعطش، وأنه إن لم يبعث إليهم من ينقذهم مما هم فيه، فسوف يستأصلون عن آخرهم، وبعثوا ذلك مع البريد، فلما قدم بذلك على «يزيد» وجده جالسا على سريره ورجلاه فى ماء يتبرد به، مما به من النقرس فى رجليه، فلما قرأ الكتاب انزعج لذلك، وبعث إلى عمرو بن سعيد ابن العاص فقرأ عليه الكتاب واستشاره فيمن يبعثه إليهم، وعرض عليه أن يبعثه إليهم فأبى عليه ذلك، وقال إن أمير المؤمنين عزلنى عنها -أى المدينة- وهى مضبوطة وأمورها محكمة، فأما الآن فإنما دماء قريش تراق بالصعيد فلا أحب أن أتولى ذلك منهم، ليتول الأمر من هو أبعد منهم منى. ويحتار المدقق فى قراءة هذه النصوص، وهو يرى كلمة «قريش» تتردد بشكل مستمر فى خطاب من أداروا هذا الموقف، بداية من الحديث عن تولية «بن مطيع» على قريش، وكلام «عمرو بن سعيد بن العاص» عن دماء قريش التى تراق بالمدينة، والأخطر من ذلك الحديث المباشر عن «الأنصار»، وليس عن أهل مدينة رسول الله، وكان فيها المهاجرون والأنصار. وتبدو المسألة كما لو كانت ثورة «أنصارية» -إذا صح التعبير- ضد الحكم القرشى، وقد يفسر ذلك عدم انحياز الكثير من القرشيين، ممن يعيشون فى المدينة إلى الأنصار فى ثورتهم، رغم عدالة ووجاهة أسبابها من المنظور الدينى، خصوصاً أنها كانت انتفاضة ضد التحول الخطير إلى نظام «الملك العضوض»، بعد سنين من حكم الخلافة الراشدة، بالإضافة إلى وقوع تحول فى تفكير الأنصار، فى مبدأ قبول أن يكون الأئمة من قريش، وهو المبدأ الذى رضوا به بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، قناعة منهم بأنه ولو كان أبوبكر وعمر وعثمان من قريش، إلا أنهم كانوا الأقدر والأجدر على حمل قيم النبوة وتفعيلها فى واقع الدين والدنيا، وقد اختلف موقفهم، عندما بدأ الحكم الأموى يفارق هذه القيم، وحينئذ لم تشفع له قرشيته، وبدأت ثورة الأنصار ضد التمحك بالانتماء القبلى لحكم المسلمين، لأن الأولى بالدفاع عنه فى هذه اللحظة هو قيم الإسلام نفسه. بعد أن رفض عمرو بن سعيد بن العاص قيادة جيش تأديب الأنصار، أرسل «يزيد» إلى مسلم بن عقبة المزنى، وهو شيخ كبير ضعيف، فانتدب لذلك، وأرسل «يزيد» عشرة آلاف فارس وقيل اثنا عشر ألفا. وقد حاول النعمان بن بشير حقن دماء الأنصار وعرض على «يزيد» أن يتولى أمر المدينة ويحاول تهدئة الأوضاع، لكن «يزيد» رفض عرضه وأصر على التعامل معهم بالغشمة والقتل.