لم يكد يمر عام على استشهاد «الحسين بن على» حتى قامت ثورة عارمة ضد حكم «يزيد بن معاوية» تزعمها أهل المدينةالمنورة، وهى الثورة التى يسميها المؤرخون ب«واقعة الحرة» عام 62 هجرية. ولست بحاجة إلى تذكيرك بما عاناه الأنصار من تهميش يوم السقيفة بعد وفاة النبى (صلى الله عليه وسلم) ورفض المهاجرين إشراكهم فى أمر الحكم، انطلاقاً من أن الأمر -أى الحكم- لن يعرف إلا لهذا الحى من قريش، وقيام أبى بكر الصديق بصياغة مسألة الخلافة فى معادلة القضاء والقدر، ومرضاة الله ورسوله الذى حكم بأن يكون الأئمة من قريش. وقد كان من الممكن للأنصار أن يواجهوا هذا الموقف من جانب الحزب المكى وينابذوه العداء، ويفرضوا على المكيين المشاركة فى الأمر، لكن يبدو أنهم رأوا أن الميزان يميل إلى ترجيح كفة أحكام السياسة وظروف الواقع الدنيوى وليس الدين، وقد تأكد لهم ذلك حينما حاول بعضهم الانتصار ل«على بن أبى طالب» فى اجتماع السقيفة، وقالوا: «لن نبايع إلا علياً»، لكن لم يسمع لهم أحد من المكيين، هنالك أدركوا بصورة قاطعة أن عليهم أن يذهبوا بدينهم بعيداً عن المشهد الذى لم يعد لهم فيه نصيب، ومما دفعهم إلى ذلك أيضاً أن أبا بكر وعمر لم يكونا أقل إيماناً ولا إخلاصاً للدين منهم، لكنهم كانوا الأقدر كرجال دولة قادرين على السيطرة على الأمور بعد وفاة النبى (صلى الله عليه وسلم). ومنذ اجتماع السقيفة وانتقال الأمر إلى أبى بكر ثم عمر، لم يظهر الأنصار تمرداً ذا بال ضد سلطة الخليفة، كذلك لم يتورط هذا الرهط من المسلمين فى محاصرة عثمان، انحاز بعضهم فقط إلى علىّ فى حربه ضد معاوية بن أبى سفيان، إيماناً منهم بأن «على» يمثل الدين، فى حين يمثل «معاوية» الدنيا، وتاريخهم يشهد على أنهم كانوا يطمئنون إلى أن «علياً» هو الأقدر على سياسة الدنيا طبقاً لقيم وتعاليم الدين. ومن هنا كان انحيازهم له. وقد واصلوا تأييدهم للحسن بن على، بعد استشهاد الخليفة الرابع، كما سبق أن ذكرنا. ورغم أنهم كانوا بعيدين عن مشهد كربلاء، فإن المؤكد أن قلوبهم كانت مع الحسين، ولو أن سيوفهم طالت العراق، لكان من المحتم أن تقاتل دفاعاً عن الحسين. ولا نستطيع أن نغفل بسهولة أن تندلع ثورة الأنصار فى مدينة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد ما يقرب من عام من استشهاد الحسين بكربلاء. فقد راعهم ما راع الحسين من غرق الحكم فى الدنيا، خصوصاً بعد أن دخل به معاوية مرحلة الملك العضوض، فورّث الحكم لابنه يزيد. كان الأنصار يفهمون الفارق جيداً بين الحزب المكى وحزبهم المدنى، منذ تلك الواقعة التى قال لهم فيها رسول الله: «أما يرضيكم أن تذهبوا بالنبى»، والتى وردت فى كتاب المغازى بصحيح البخارى وفيها: «حدثنى عبدالله بن محمد حدثنا هشام أخبرنا معمر عن الزهرى قال أخبرنى أنس بن مالك رضى الله عنه قال: قال ناس من الأنصار حين أفاء الله على رسوله (صلى الله عليه وسلم) ما أفاء من أموال هوازن، فطفق النبى صلى الله عليه وسلم يعطى رجالا المائة من الإبل، فقالوا يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطى قريشا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، قال أنس: فحدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار، فجمعهم فى قبة من أدم ولم يدع معهم غيرهم، فلما اجتمعوا، قام النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: ما حديث بلغنى عنكم، فقال فقهاء الأنصار: أما رؤساؤنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئا، وأما ناس منا حديثة أسنانهم، فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطى قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: فإنى أعطى رجالا حديثى عهد بكفر أتألفهم، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وتذهبون بالنبى صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، قالوا يا رسول الله: قد رضينا، فقال لهم النبى صلى الله عليه وسلم، ستجدون أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم». تلك هى رؤية النبى لبعض حديثى العهد بالكفر من أهل مكة، كان يعطيهم ليتألفهم انطلاقاً من نظرته إليهم كأهل دنيا، وذاك موقفه من الأنصار كأهل دين، سوف يجدون من الآخرين أنانية شديدة. أهل الدين هؤلاء لم يكن لهم أن يقفوا صامتين -شأنهم شأن الحسين- وهم يشاهدون هذا التحول الجلل فى أمر الحكم، بعد دخوله دائرة التوريث على يد معاوية بن أبى سفيان، فكان قرارهم بالانتفاض ضده والثورة على خليفته ووارث حكمه «يزيد» فى واقعة «الحرة» الشهيرة.