بعد ستة عقود على معالجة جنود صينيين عائدين من الجبهة الكورية، ما زال الطبيب تشو مقتنعا أن تضحياتهم لم تذهب سدى، ولو أن التحالف المجبول بالدم بين بكين وبيونج يانج ضعف مذاك. وأثناء الحرب الكورية (1950-1953)، أرسلت الصين مئات الآلاف من الجنود إلى شبه الجزيرة، وأجبرت هذه "الأمواج البشرية" قوات الجنرال الأمريكي دوجلاس ماك آرثر التي اجتاحت الشمال على الانكفاء. وما زال عدد الجنود الصينيين الذين سقطوا في النزاع موضع جدل بين المؤرخين، فالخبراء الغربيون يتحدثون غالبا عن مقتل 400 ألف منهم، فيما تذكر السلطات الصينية في السنوات الأخيرة 180 ألفا. وهذه الحرب التي انتهت باتفاق هدنة أُبرم في 27 يوليو 1953، تحتل مكانة خاصة في تاريخ الصين الحديث، فقد بدأت بعد أقل من 12 شهرا على تأسيس الحزب الشيوعي برئاسة ماو تسي تونج الجمهورية الشعبية، في أعقاب حرب أهلية دامية. وقُتل ماو أنيينج نجل ماو تسي تونج، في معارك في الحرب الكورية، وهو يعتبر رمزا للعلاقات الوثيقة بين البلدين، اللذين غالبا ما يوصفان بأنهما "قريبان قرب الشفتين من الأسنان". ويتذكر تشو تشونج تشينج الطبيب النفسي المتقاعد الذي يحتفل في أغسطس بعيد ميلاده ال94، بالتفصيل الجنود الكُثْر الذين عولجوا في مستشفاه في مدينة تشانج تشون شمال شرق الصين، على بعد 270 كيلومترا من الحدود الكورية. وأكد الرجل الأبيض الشعر والكثيف الحاجبين أن "جميع هؤلاء الشباب كانوا متطوعين وممتلئين بالحماسة الوطنية". وتابع جالسا أمام مكتبة حفلت بالأعمال الطبية والمعاجم في منزله: "لكن واجب القتال المستمر كان امتحانا صعبا لهم، وكانوا يعودون مصابين بأمراض نفسية". وأضاف: "كان فكرهم ما زال في المعركة. في قاعة المستشفى واصلوا الهتاف بأوامر عسكرية: (صوبوا، أطلقوا النار، اقضوا على الأمريكيين الإمبرياليين، دافعوا عن الأمة). كانوا يتوقون للعودة إلى الجبهة". وأصر تشو الذي انطلق يدندن أغنية وطنية، على أهمية هذه الحرب لبكين، مشيرا إلى أن خسارة بيونج يانج كانت لتترك الجمهورية الشعبية الحديثة النشأة في موقع حساس أمام الولاياتالمتحدة. ويعتقد الطبيب أن "إرسال الجنود إلى كوريا الشمالية كان الخيار الصحيح للدفاع عن الأمة. كانت حربا منصفة". وفي الصين سُمِّيت الحرب رسميا "حرب مقاومة الاعتداء الأمريكي وإنقاذ كوريا"، لكن بعد 60 عاما وبعد تصاعد قوة الصين اقتصاديا وسياسيا على الساحة العالمية، بدأ يبرز تدريجيا امتعاض الصين من جارتها ومسرحياتها النووية. فالرئيس الصيني الجديد شي جينبينج المولود قبل شهر على الهدنة في 1953، اعتمد نبرة صارمة غير معهودة حيال "الذين يثيرون الفوضى لأغراض أنانية"، في تصريح اعتُبِر أنه يعني كوريا الشمالية ولو أنه لم يسمها. وأتت هذه التصريحات بعد أشهر من الاستفزازات من طرف بيونج يانج، من بينها إطلاق صاروخ اعتبرته سيول تجربة صاروخ عابر للقارات، وتجربة نووية جديدة، وتهديدات متكررة بضرب "الأعداء". واعتبر آدم كاثكارت خبير العلاقات الصينية الكورية في جامعة كوينز في بلفاست، أن دعم الصين كوريا الشمالية "يتراجع بشكل جلِيٍّ". ففي زيارة في الأسبوع الماضي إلى متحف ثورة الشعب الصيني في غرب بكين، اعتبر سائق الشاحنة بان يود، أن الثمن الكبير الذي دفعته الصين للدفاع عن جارتها مبرر، لكن موقفه يتشدد عند ذكر كوريا الشمالية اليوم وينتقد "عنادها". وتابع أمام دبابات أمريكية معروضة كغنيمة لتلك الحرب: "إنها عاجزة عن التكيف مع التطورات التاريخية في العالم (...) شعبها يبقى جائعا وقادته يبدون عدائيين ومهتمين بالعسكرة"، مضيفا: "بصراحة، من دون دعم الصين وروسيا، كانت البلاد متجهة بسرعة إلى الهلاك". أما كاثكارت، فاعتبر أن تغير المواقف هذا يفسَّر بالرحيل التدريجي للجيش الذي عايش الحرب، وتلكؤ كوريا الشمالية في الاعتراف بالتضحيات الصينية، وكذلك الحرية التي مُنِحَت للمؤرخين في الصين لبحث هذه الحقبة من التاريخ. وأوضح المؤرخ أنه "من الجلي أن الصين تشهد مراجعة للتاريخ، فيما يصر الكوريون الشماليون على نسختهم التي تعتبر أن بطل (الحرب) الرئيسي هو كيم أيل سونج (مؤسس النظام)، الأمر الذي يعتبره الصينيون مثيرا للسخرية".