لما فرغ «معاوية» من عرض قضيته فى توريث ابنه «يزيد» الخلافة، طلب رداً من أبناء كبار الصحابة على ما يقول، ويحكى «ابن الأثير» أن «معاوية» أقبل على ابن الزبير، فقال: «هات لعمرى إنك خطيبهم. فقال: نعم، نخيرك بين ثلاث خصال. قال: اعرضهن. قال: تصنع كما صنع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أو كما صنع أبوبكر، أو كما صنع عمر. قال معاوية: ما صنعوا؟ قال: قُبض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولم يستخلف أحداً فارتضى الناس أبا بكر. قال: ليس فيكم مثل أبى بكر وأخاف الاختلاف. قالوا: صدقت، فاصنع كما صنع أبوبكر، فإنه عهد إلى رجل من قاصية قريش ليس من بنى أبيه فاستخلفه، وإن شئت فاصنع كما صنع عمر، جعل الأمر شورى فى ستة نفر، ليس فيهم أحد من ولده، ولا من بنى أبيه. قال معاوية: هل عندك غير هذا؟ قال: لا. ثم قال: فأنتم؟ قالوا: قولنا قوله. قال: فإنى قد أحببت أن أتقدم إليكم، إنه قد أعذر من أنذر، إنى كنت أخطب فيكم فيقوم إلىّ القائم منكم فيكذبنى على رؤوس الناس، فأحمل ذلك وأصفح. وإنى قائم بمقالة فأقسم بالله لئن رد علىّ أحدكم كلمة فى مقامى هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه، فلا يبقين رجل إلا على نفسه». لم يكن معاوية ينتظر مناقشة فى الأمر، بل موافقة؛ لذا فقد رفض كل مقترحات ابن الزبير التى يتعجب المحلل كيف خلت من الاحتجاج برفض فكرة التوريث، انطلاقاً من أن النبى، صلى الله عليه وسلم، لم يورث الحكم لآل بيته، وكذلك فعل الشيخان أبوبكر وعمر؛ حيث لم يورث كلاهما الحكم لابن من أبنائهما. لقد كان من الوارد جداً أن يذكره «ابن الزبير» بالمقولة العمرية الشهيرة، عندما طلب منه استخلاف ابنه: «كفى آل الخطاب عمر»؛ فالتوريث كان مسألة مرفوضة تماماً فى إطار فترتى النبوة والخلافة الراشدة، وبالتالى كان الأقرب أن يحتج «ابن الزبير» بذلك، لكن يبدو أن أمر التفكير فى الحكم ألهاه عن ذلك، وجعله يسترشد بأفعال رجال لم يكن هناك من هو كفء لهم فى ذلك الوقت، الأمر الذى يسّر لمعاوية دحض كلامه. ويبدو أن معاوية قرأ المشهد جيداً، واستنتج من خطاب معارضة حزب «أبناء كبار الصحابة» أن الاحتجاج لا يستند إلى قناعة دينية ترفض التوريث، إعمالاً لقوله تعالى: «وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» (البقرة: 124). فلا معنى لتوريث الحكم مع الظلم وغياب العدل، ولا يوجد ظلم فى مثل هذا الموقف أبلغ من أن تؤخذ البيعة للحاكم والسيف فوق رقاب العباد. عندئذ كان من الطبيعى جداً أن يتحول معاوية إلى رفع السيف والتهديد المباشر به. دعا «معاوية» صاحب حرسه بحضرتهم فقال: أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين، ومع كل واحد سيف، فإن ذهب رجل منهم يرد على كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهما. ثم خرج وخرجوا معه حتى رقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم، لا يبتز أمر دونهم، ولا يقضى إلا عن مشورتهم، وإنهم قد رضوا وبايعوا ليزيد، فبايعوا على اسم الله! فبايع الناس، وكانوا يتربصون بيعة هؤلاء النفر، ثم ركب رواحله وانصرف إلى المدينة، فلقى الناس أولئك النفر فقالوا لهم: زعمتم أنكم لا تبايعون فلِمَ رضيتم وبايعتم؟ قالوا: والله ما فعلنا. فقالوا: ما منعكم أن تردوا على الرجل؟ قالوا: كادنا وخفنا القتل. وما إن أتم معاوية مهمته فى أخذ البيعة لولده يزيد على حياة عينه، حتى بدأ يشعر بدنو الأجل فخطب فى الناس قبل مرضه وقال: إنى كزرع مستحصد وقد طالت إمرتى عليكم حتى مللتكم ومللتمونى، وتمنيت فراقكم وتمنيتم فراقى، ولن يأتيكم بعدى إلا من أنا خير منه، كما أن من قبلى كان خيراً منى، وقد قيل: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، اللهم إنى قد أحببت لقاءك، فأحبب لقائى وبارك لى فيه! فلم يمض غير قليل حتى ابتدأ به مرضه، فلما مرض المرض الذى مات فيه دعا ابنه يزيد فقال: إنى لست أخاف عليك أن ينازعك فى هذا الأمر إلا أربعة نفر من قريش: الحسين بن على وعبدالله بن عمر وعبدالله بن الزبير وعبدالرحمن بن أبى بكر؛ فأما ابن عمر فإنه رجل قد وقذته العبادة، فإذا لم يبق أحد غيره بايعك؛ وأما الحسين بن على فهو رجل خفيف ولن يتركه أهل العراق حتى يخرجوه، فإن خرج وظفرت به فاصفح عنه، فإن له رحماً ماسة وحقاً عظيماً، وقرابة من محمد، صلى الله عليه وسلم، وأما ابن أبى بكر فإن رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثله، ليس له همة إلا فى النساء واللهو، وأما الذى يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك مراوغة الثعلب فإن أمكنته فرصةٌ وثب فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك فظفرت به فقطّعه إرباً إرباً؛ واحقن دماء قومك ما استطعت. ويقال إن عبدالرحمن بن أبى بكر كان قد مات قبل معاوية، وقيل أيضاً: إن يزيد كان غائباً فى مرض أبيه وموته، وإن معاوية أحضر الضحاك بن قيس ومسلم بن عقبة المرى فأمرهما أن يؤديا عنه هذه الرسالة إلى يزيد ابنه، وقد يكون ذلك هو الصحيح.