انتهت المرحلة الأولى من مهمة معاوية فى توريث الحكم لابنه «يزيد»، فبايع على ذلك أهل العراق والشام، لينتقل بعد ذلك إلى المرحلة الأخطر: مرحلة انتزاع البيعة من كبار أبناء صحابة النبى الطامحين إلى الخلافة. سار معاوية -كما يحكى ابن الأثير فى «الكامل» فى التاريخ- إلى الحجاز فى ألف فارس، فلما دنا من المدينة، لقيه الحسين بن على أول الناس، فلما نظر إليه قال معاوية: لا مرحباً ولا أهلاً! بدنة يترقرق دمها والله مهريقه! قال الحسين: مهلاً فإنى والله لست بأهل لهذه المقالة! قال: بلى ولشر منها. ولقيه ابن الزبير فقال: لا مرحباً ولا أهلاً! خب ضب تلعة، يدخل رأسه ويضرب بذنبه، ويوشك والله أن يؤخذ بذنبه ويدق ظهره، نحياه عنى، فضرب وجه راحلته. ثم لقيه عبدالرحمن بن أبى بكر، فقال له معاوية: لا أهلاً ولا مرحباً! شيخ قد خرف وذهب عقله. ثم أمر فضرب وجه راحلته، ثم فعل بابن عمر نحو ذلك، فأقبلوا معه لا يلتفت إليهم، حتى دخل المدينة، فحضروا بابه، فلم يؤذن لهم على منازلهم ولم يروا منه ما يحبون، فخرجوا إلى مكة فأقاموا بها، وخطب معاوية بالمدينة، فذكر «يزيد» فمدحه، وقال: من أحق منه بالخلافة فى فضله وعقله وموضعه؟ وما أظن قوماً بمنتهين حتى تصيبهم مصائب تجتث أصولهم، وقد أنذرت إن أغنت النذر. جوبه سعى معاوية لتوريث ولده خلافة المسلمين بمعارضة عنيفة من جانب كبار أبناء الصحابة، وعلى رأسهم الحسين بن على، رضى الله عنهما، الذى كان يرفض خلافة معاوية ويعتب على أخيه تنازله عن الأمر له، فما بالنا ومعاوية يحاول أن يورث الحكم ل«يزيد»؟! وقد جابه معاوية هذا الرفض منذ البداية بعنف أشد، وتوالت تهديداته لهم الواحد تلو الآخر، كما حكى ابن الأثير. وإلى جانب التهديد والوعيد لجأ معاوية -كما هو معهود عنه- إلى الحيلة والدهاء؛ فرأى أن يستعين بأم المؤمنين عائشة التى أعطته صك الشرعية بالحكم، حين حكت ذلك الحديث الذى ذكرت فيه أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال لعثمان رضى الله عنه إن الله سوف يلبسك قميصاً فلا تخلعه. ذهب معاوية إلى عائشة، رضى الله عنها «فدخل عليها، وقد بلغها أنه ذكر الحسين وأصحابه، وقوله لأقتلنهم إن لم يبايعوا، فشكاهم إليها، فوعظته وقالت له: بلغنى أنك تتهددهم بالقتل، فقال: يا أم المؤمنين هم أعز من ذلك، لكنى بايعت ليزيد وبايعه غيرهم، أفترين أن أنقض بيعة قد تمت؟ قالت: فارفق بهم فإنهم يصيرون إلى ما تحب إن شاء الله. قال: أفعل. وكان فى قولها له: ما يؤمنك أن أقعد لك رجلاً يقتلك، وقد فعلت بأخى ما فعلت؟ تعنى أخاها محمداً. فقال لها: كلا يا أم المؤمنين، إنى فى بيت أمن. قالت: أجل». لقد بدا أسلوب «معاوية» فى إدارة الموقف مرتباً أشد الترتيب؛ فقد بدأ بالترهيب ومواجهة كبار أبناء الصحابة بخطاب لا يخلو من الخشونة اللفظية والتهديد والوعيد، حتى يهيئهم نفسياً لقبول فكرة أنه مُصر على تمرير ما يريد من توريث الحكم لابنه، وفى الوقت نفسه، حاول أن يكسب عملية التوريث نوعاً من الشرعية من خلال أم المؤمنين عائشة، حين ذهب يشكو لها ابن على وابن أبى بكر وابن عمر وابن الزبير، فنصحته بالملاينة والمصانعة والبعد عن تهديدهم بالقتل. والواضح أن معاوية لم يكن بحاجة إلى هذه النصيحة؛ إذ كان يرتب فى نفسه أن ينتقل من مرحلة الترهيب إلى مرحلة الترغيب، وكل ما كان يرتجيه من عائشة هو أن يفهم أبناء الصحابة أنها لا تمانع فى سعيه للتوريث وبناء الملك العضوض. وبعد لقاء عائشة مكث معاوية ما شاء الله، ثم خرج إلى مكة فلقيه الناس، فقال أولئك النفر (أبناء كبار الصحابة): نتلقاه فلعله قد ندم على ما كان منه، فلقوه ببطن مر، فكان أول من لقيه الحسين، فقال له معاوية: مرحباً وأهلاً يا بن رسول الله وسيد شباب المسلمين! فأمر له بدابة فركب وسايره، ثم فعل بالباقين مثل ذلك، وأقبل يسايرهم لا يسير معه غيرهم حتى دخل مكة، فكانوا أول داخل وآخر خارج، ولا يمضى يوم إلا ولهم صلة ولا يذكر لهم شيئاً، حتى قضى نسكه وحمل أثقاله وقرب مسيره، فقال بعض أولئك النفر لبعض: لا تخدعوا فما صنع بكم هذا لحبكم وما صنعه إلا لما يريد. فأعدوا له جواباً فاتفقوا على أن يكون المخاطب له ابن الزبير. فأحضرهم معاوية وقال: قد علمتم سيرتى فيكم وصلتى لأرحامكم، وحملى ما كان منكم، ويزيد أخوكم وابن عمكم وأردت أن تقدموه باسم الخلافة، وتكونوا أنتم تعزلون وتؤمرون، وتجبون المال وتقسمونه لا يعارضكم فى شىء من ذلك.. فسكتوا. فقال: ألا تجيبون؟ مرتين. ومنهج المقايضة واضح فى هذا الحوار، فقد أراد معاوية أن يجعل منهم مراكز قوى داخل المجتمع المسلم، فيكون لهم حق الإمارة والعزل وجمع الأموال من المسلمين، نظير الموافقة على تولية «يزيد» أمر الخلافة، لكن الطرف الآخر فى هذه المقايضة -أبناء كبار الصحابة- كانوا يعلمون أن «معاوية» يمنحهم وعوداً غير مضمونة التنفيذ، وأن الغر هو من يطمئن لمثلها، خصوصاً أن الشكوك كانت تحيط بدار الخلافة فى الشام، فيما يتعلق بواقعة دس السم للحسن بن على، رضى الله عنهما!