لم يكن من الممكن أن أتصور على الإطلاق، عندما حضرت يوم السبت 21 مايو 2011 الاحتفال الكبير الذى أقامه «الإخوان المسلمون» لافتتاح مقرهم الجديد الفاخر فى المقطم، ودعوا إليه ممثلى جميع القوى السياسية، أن هذا المقر نفسه سوف يتعرض للحرق والتدمير بعد عامين فقط فى مشهد درامى رهيب، لا يماثله إلا مشهد حرق مقر الحزب الوطنى على كورنيش النيل فى غمار أحداث ثورة يناير 2011! لقد حملت صحف صباح الاثنين 23 مايو 2011 صور المرشد العام محمد بديع وهو يقص شريط افتتاح المركز العام منتشيا وسعيدا وسط تكبيرات أعضاء الجماعة.. قبل أن يستقبل كبار الضيوف (الذين غاب منهم ممثلو المجلس العسكرى رغم توجيه الدعوة إليهم)! والآن، وتحديدا فى صبيحه يوم الاثنين الأول من يوليو 2013 كانت مشاهد حرق وتدمير ونهب مقر المقطم هى السائدة على شاشات أكثر من محطة تليفزيونية على الهواء مباشرة، أمام ملايين المشاهدين! ولا يمكن على الإطلاق إغفال المغزى الرمزى لهذا الحدث، فى تكامله مع الانتفاضة الشعبية الشاملة يوم 30 يونيو، التى يحق وصفها ب«ثورة» على الأقل لما شهدته من الاحتشاد الطوعى لملايين المصريين فى القاهرةوالإسكندرية والعديد من عواصم المحافظات، على نحو تضاءلت أمامه حشود ثورة 25 يناير نفسها! والواقع أننى لم أشهد شخصيا حشدا بهذا الاتساع فى مصر إلا فى الجنازة الأسطورية لجمال عبدالناصر عام 1970، التى تدفق فيها الشعب كله إلى الشوارع فى جميع أنحاء مصر. لقد تكرر المشهد نفسه يوم الأحد الماضى، ويبدو أن تقديرات موقع «جوجل» تتفق مع التقدير بأن عدد المتظاهرين فى جميع أنحاء البلاد تراوح بين 17 و18 مليون متظاهر. نحن إذن أمام ثورة 30 يونيو التى سيتوقف التاريخ عندها كثيرا، والتى تشير إلى رفض شعبى - جماهيرى لا شك فيه لحكم «الإخوان المسلمين» ولحكم الرئيس محمد مرسى! ولن أتوقف هنا كثيرا عند المفاضلة بين رؤيتين: هل هى امتداد لثورة 25 يناير أو موجة ثانية لها، أم هى ثورة جديدة؟ فحتى لو قلنا إنها امتداد لثورة 25 يناير فسوف يتوجب علينا أن نسلم بأن ذلك «الامتداد» للثورة أو تلك الموجة «الثانية» هى أكبر وأكثر شمولا بكثير من الثورة الأولى أو الأصلية! ولذلك فإن تقديرى الخاص هو أننا إزاء ثورة أصيلة كاملة، بذاتها، ليس فقط لأن المشاركة الشعبية فيها كانت من بين الحشود الأكثر اتساعا على مستوى العالم بل والتاريخ البشرى كله.. وإنما الأهم هو ذلك العنصر «الكيفى» المذهل المتمثل فى المشاركة «الطوعية» و«الواعية» التى تنطوى على إدراك كامل وإصرار من المشاركين فيها فى مواجهة تنظيم اعتاد «حشد» الأعضاء و«تلقينهم»، استنادا إلى مبدأ السمع والطاعة! وذلك هو مضمون الاختلاف الهائل بين أولئك الذين احتشدوا فى محيط مسجد رابعة العدوية، فى حى مدينة نصر بالقاهرة، ومئات الآلاف (بل الملايين) الذين احتشدوا ليس فقط فى ميدان التحرير بقلب القاهرة، أو أمام مقر «الاتحادية» شرق القاهرة، وإنما أيضا فى الإسكندرية والمحلة وطنطا ودمنهور وبورسعيد والإسماعيلية والسويس... إلخ، وفى معظم المدن المصرية، بل والعديد من الأقسام والمراكز. وهكذا يشاء القدر أن تكون أهم وأكبر ثورات المصريين، على مدى تاريخهم كله، هى ثورتهم ضد الإخوان المسلمين وحزبهم ورئيسهم! ومرة أخرى أكرر: إن مفاجأة الفشل الإخوانى الكامل فى إدارة شئون البلاد لم تماثلها أو تفوقها إلا مفاجأة الرفض الشعبى الكاسح لهم، الذى لم يرد بالقطع لدى الإخوان فى أشد كوابيسهم ظلمة وتشاؤما! ولم يكن غريبا، إزاء ذلك الموقف الشعبى الكاسح، أن يستجيب الجيش المصرى للأمل الذى راود ملايين المصريين؛ فعبر بعضهم عنه صراحة وإلحاحا، وتطلع إليه بعضهم الآخر بشكل ضمنى ومتردد، خوفا من أن يعنى ذلك استدعاء لدور سياسى للجيش انتهى زمانه، لكن الجيش لم يخذل شعبه أبدا! وكانت المهلة التى أعلن عنها الفريق أول عبدالفتاح السيسى فى الثالث والعشرين من يونيو تعبيرا راقيا ورائعا عن الإحساس العميق بالمسئولية إزاء الشعب والوطن وإزاء جميع أطراف العملية السياسية فى البلاد، لخصتها كلمته: «هناك حالة من الانقسام داخل المجتمع، واستمرارها خطر على الدولة المصرية، ولا بد من التوافق بين الجميع».. و«ليس من المروءة أن نصمت أمام تخويف وترويع أهالينا المصريين، والموت أشرف لنا من أن يمس أحد من شعب مصر فى وجود جيشه»! وبعد انقضاء مدة الأسبوع بالضبط، وفى اليوم الموعود، صدر بيان القوات المسلحة الذى صيغ بدقة وحساسية فائقة، مذكرا فى بدايته ب«مظاهرات وخروج شعب مصر العظيم ليعبر عن رأيه وإرادته بشكل سلمى وحضارى غير مسبوق».. وبحركة «الشعب المصرى التى رآها الجميع وسمعوا صوته بأقصى درجات الاحترام والاهتمام»، وبناء عليه قال الجيش: «إن من المحتّم أن يتلقى الشعب رداً على حركته وعلى نداءاته، من كل طرف يتحمل قدرا من المسئولية فى هذه الظروف الخطرة المحيطة بالوطن».. و«لقد عانى هذا الشعب الكريم ولم يجد من يرفق به أو يحنو عليه، وهو ما يلقى بعبء أخلاقى ونفسى على القوات المسلحة التى تجد لزاما أن يتوقف الجميع عن أى شىء بخلاف احتضان هذا الشعب الأبى الذى برهن على استعداده لتحقيق المستحيل إذا شعر بالإخلاص والتفانى من أجله». واليوم (الأربعاء 3 يوليو 2013) تنتهى مدة الثمانى والأربعين ساعة التى حددها الجيش لتلبية مطالب الشعب، وتحمل عبء الظرف التاريخى الذى يمر به الوطن «وإنه إذا لم تتحقق مطالب الشعب خلال المدة المحددة، فسوف يكون لزاما علينا أن نعلن عن خارطة مستقبل وإجراءات نشرف على تنفيذها بمشاركة جميع الأطراف والاتجاهات الوطنية المخلصة بما فيها الشباب الذى كان ولا يزال مفجرا لثورته المجيدة». وهكذا يتبدى المشهد التاريخى الأعظم فى تاريخ مصر المعاصرة، شعب مصر بكل قواه الحية، وبكل عنفوانه وصحوته الثورية غير المسبوقة.. مؤيدا بجيشه العظيم -الذى كان دوما عماد الدولة المصرية ورمز استمراريتها وعزها وفخارها- فى مواجهة «الإخوان المسلمين» الذين فشلوا فشلا ذريعا، سواء فى تقديم أنفسهم كحزب ديمقراطى حديث، أو فى تقديم رؤى أو سياسات أو برامج لحل أى مشاكل مصر، فضلا عن إفلاسهم المشين فى الكوادر والقيادات المطلوبة لإدارة شئون مصر! فى سياق هذه المواجهة غير المسبوقة، تبدو فى الأفق النهاية الحتمية للإخوان المسلمين، جماعة وحزبا وفكرة، على أرض مصر التى شهدت -منذ خمسة وثمانين عاما- مولدها! وقد تبدو هذه الفكرة لدى البعض، ولدى الإخوان بالذات، وكأنها ضرب من الشطط فى الخيال، أو التطرف فى المبالغة، لكننى أوقن بذلك.. وقد ذكرت الكثير مما يبرر رؤيتى تلك، لكنى أختم هنا بملاحظة أخيرة، هى: هل كانت لدى الإخوان فى سنواتهم الأولى أى فرصة حقيقية للنمو والازدهار عندما كانت مصر تنعم بنظام ديمقراطى حقيقى قبل 1952؟ لقد ازدهر الإخوان -عكس كل ما يروجون له- فى ظل النظم والظروف اللاديمقراطية، بظروفها المتباينة، طوال العقود الستة بين خمسينات القرن الماضى والعقد الثانى من هذا القرن. والآن، وقد انتزع الشعب المصرى حريته ونظامه الديمقراطى بنضاله العظيم، فإن تلك الديمقراطية هى التى لن تسمح أبدا بوجود أى قوى أو تيارات شمولية فاشية باسم الدين أو غيره، وذلك هو المغزى العظيم لثورة مصر الديمقراطية الراهنة، التى تكتب هذه الأيام نهاية قصة اسمها «الإخوان المسلمون»!