عند ظهور نتائج انتخابات الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة المصرية كنت ضيفاً على قناة النهار المصرية، ومن الاتصالات التى استوقفتنى من المشاهدين اتصال طالب صاحبه بالتفكير فى حرمان الأميين من التصويت فى الانتخابات البرلمانية والرئاسية. كان المبرر الذى ساقه المتصل لا يخلو من وجاهة، وهو أن منح رخصة قيادة سيارة أصبح مشروطاً بألا يكون صاحبه أمياً. بدا الاقتراح لأول وهلة متعالياً و«طبقياً»، لكننى سريعاً التقطت الجانب الذى تصورته إيجابياً فيه وهو أن حق التنظيم قد يجيز تضييق نطاق حق التصويت، حتى لو كان القياس مجرد وجهة نظر يمكن قبولها أو ردها، وليس موقفاً أيديولوجياً مبدئياً يقاتل البعض لمنع تطبيقه بوصفه متعارضاً مع رؤية البعض لما يجب أن يترتب حتماً على المساواة أمام القانون. فمن المشروع التساؤل عن معنى منع شخص من قيادة «مركبة» ما لم يكن يجيد القراءة والكتابة والسماح له بالمشاركة فى اختيار من يقود «مركبة الوطن». كان تعليقى الذى ما زلت أراه تغييراً صغيراً يمكن أن يشكل منعطفاً نوعياً كبيراً فى الممارسة السياسية أن الحل ليس فى مناقشة حق الأميين فى التصويت أو أى من حقوقهم السياسية الأخرى، بل فى التخلص من ممارسة انتخابية تبدو تفصيلة صغيرة تذكرنى باللغة الهيروغليفية وحروفها المكونة من رسوم الحيوانات. وأتمنى أن الانتخابات الرئاسية، التى أسفرت عن انتخاب أول رئيس مدنى منتخب، آخر انتخابات يصوت الناس فيها على «رموز انتخابية»، فهذه الرموز هى أحد أخطر أشكال الحشد غير الواعى خلف أى ظاهرة انتخابية، وهى بالتالى الوجه الآخر لعمليات حشد أخرى دينية وقبلية وعشائرية يذهب فيها الناخب لاختيار مرشح دون اعتبار لبرنامج أو استحقاق له أسبابه المنطقية. فعندما تختفى الرموز من بطاقة التصويت لن يكون بإمكان ناخب لا يقرأ ولا يكتب التصويت إلا بالتحايل على القانون، وشىء من «التضييق القانونى» على ظواهر الحشد الجماعى (الدينية والطائفية والعشائرية والعائلية) ضرورة لثقافة اختيار ديمقراطى رشيد. وإذا كنا نشعر بفرح غامر بحدث مفصلى كبير انتخبنا فيه لأول مرة رئيساً مدنياً فاز بنسبة تتجاوز الخمسين بالمائة بقليل، معتبرين ما حدث حفلاً وطنياً لتوديع الفرعونية السياسية، فإن توديع انتخابات الفراعنة التى تشبه رموز بطاقتها التصويتية مسلات الفراعنة برسومها النباتية الحيوانية مطلوب. وقد أصبحت قضية محاصرة الأمية إحدى القضايا التى ينبغى أن يوليها مجتمع السياسة اهتماماً أكبر كونها خطراً ينخر كالسوس فى جسد هذا المجتمع الوليد وتحاصره بتكوينات جماعية تحتشد خلف رؤوسها بناء على اعتبارات تعيد -بشكل جزئى- إنتاج معادلات السياسة التى حكمت مصر خلال نظام مبارك، وتجعل الروابط التنظيمية والعائلية والطائفية فوق الأفكار والبرامج. وعندئذ يكفى أن يذهب الناخب للتصويت ل: شمسية أو طائرة أو دراجة أو سلم أو... بينما المرشح نفسه يصبح مجرد رمز، وكأننا بهذه التفصيلة الصغيرة نطلق رصاصة الإعدام على الأفكار والبرامج السياسية، وبهذا تقدمت الأمم التى تقدمت. وقد كان لأحد قادة إسرائيل تصريح شهير، قبل هزيمة يونيو، مفاده أن إسرائيل تتعامل مع مصر باعتبار أن سكانها خمسة ملايين نسمة فقط، هم آنذاك المتعلمون! فهل نودع انتخابات الفراعنة برموزها المصورة كما ودعنا الفرعونية السياسية؟