داخل الغار المعتم، ظلت الأم «مريم العذراء» تتمتم بصلواتها حمداً لله، كانت «الأسرة المقدسة» فى طريق عودتها إلى «الجليل بفلسطين»؛ وقد مات ملكها «هيرودس» الذى كان يطلب الطفل «المسيح» ليهلكه بحسب التأريخ المسيحى، وقتها كانت مياه النيل تغمر الأرض حتى أسوار حصن «بابليون» الرومانى، وقد بارك مكوث العائلة المقدسة المكان بأكمله، فارتفعت فيه الكنائس بأيدى المسيحيين، ومن بينها تلك الكنيسة التى شُيدت «مُعلّقة» على قمتى برجين من أبراج الحصن الذى تآكل مع الأيام. بعد ثلاث عشرة سنة بعد الألفين من ميلاد المسيح؛ توسط الكاهن يعقوب سليمان، كاهن الكنيسة المعلقة بمصر القديمة، المصلين يقودهم فى صلاة «البصخة»، وهى «صلاة يومية على مدى أسبوع الآلام المقدس لدينا فى المسيحية، والبصخة كلمة قبطية معناها العبور»، يقول الكاهن: الكنيسة العريقة، المشيدة فى حى مصر القديمة، يقول عنها الكاهن «سليمان» إنها كانت أول مقر بابوى لبطريرك الكرازة المرقسية بالقاهرة، «فالمعروف أن المقر الرئيسى للبابوية المرقسية فى مدينة الإسكندرية، لأن القديس مرقس كرّز و«بشّر» للمسيحية من هناك، لكن مع انتقال العاصمة من الإسكندرية إلى الفسطاط مع وصول العرب، انتقل مقر البابوية إلى جوار السلطة المدنية، فكانت كنيسة السيدة العذراء والقديسة دميانة الشهيرة بالكنيسة المعلقة، وهى مقر البابوية الجديد، قبل أن ينتقل المقر، لاحقاً، إلى الكاتدرائية فى العباسية». نالت الكنيسة شهرتها، لأنها من أقدم الكنائس الباقية فى مصر، أو كما يقول قمص الكنيسة سليمان: الكنيسة بحكم قدمها وطرازها البازيليكى الذى بنيت عليه متخذة شكل فُلك نوح، ورسومها وزخارفها وأبوابها تجذب الزوار المصريين والأجانب؛ فلدينا ما يقرب من 110 أيقونات، واللافت فى الكنيسة أن صحنها مشيد على ارتفاع 13 متراً فوق الأرض الطبيعية، حيث شيدها المسيحيون الأوائل فوق برجين من أبراج حصن بابليون الرومانى»؛ ومنذ ذلك الحين، لم تنطفئ فى الكنيسة الشموع ولم تكف الترانيم والصلوات، كتلك التى يؤديها أحد الشمامسة حين يتلو بنكهة قبطية فى صلاة «البصخة»: من مزامير تراتيل معلمنا داود النبى بركاته علينا.. آمين احكم حكمى ونجنى من أجل كلامك لأحيا، بعيد الخلاص من الخطاة لأنهم لم يطلبوا حقوقك هلليلويا. .. .ارحمنى يا الله، ارحمنى فإنه عليك توكلت نفسى، وبظل جناحيك أتكل إلى أن يعبر الإثم، هلليلويا. «الكنيسة شهدت الكثير من المعجزات التى لا أمل الحديث عنها»، هكذا يعتقد الأب يعقوب الذى يروى حكاية يتداولها المسيحيون دليلاً على صحة دينهم، «ففى عهد الخليفة المعز لدين الله الفاطمى؛ كثرت الوشايات التى تطال بابا الكنيسة القبطية لدى الخليفة، حتى قال له أحدهم إنه يريد مجادلة البابا فى آية فى الإنجيل تقول: لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل.. فاستعدى الخليفةُ البابا إبرام ابن زرعة، فلما حضر، طلب منه تحريك جبل المقطم بقوة تلك الآية.. ». بلسان متفاخر، يتابع الأب يعقوب رواية المعجزة «وقتها طلب البابا ثلاثة ليالٍ وعاد إلى الكنيسة المعلقة التى كانت مقر البابوية حينها وفى سحر الليلة الثالثة تجلت له «السيدة العذراء»، ودلته على دبّاغ قديس هو القديس «سمعان الخراز» ستتم على يده تلك المعجزة، فطلبه البطريك إبرام على الفور؛ ويقال إنها خاطبته من خلال تلك الأيقونة» يشير راعى الكنيسة المعلقة إلى إحدى أيقونات مريم العذراء. «فى صباح اليوم التالى، تمت المعجزة، فكان البطريرك وسمعان الخراز ومعهما الكهنة يصلون، فيقولون كيرياليسون يا رب ارحم فيتحرك الجبل إلى الخلف» ينتهى القمص وقد بدت على وجهه ابتسامة عريضة ليكمل: «خلفاء أمراء المماليك اعتادوا أخذ أعمدة الكنائس لاستكمال بناء مساجدهم، فتستطيع تمييز تلك الأعمدة داخل المساجد من تيجانها، لكن الكنيسة المعلقة سلمت مما طال تلك الكنائس». ثمانية وعشرين عاماً قضاها القمص يعقوب سليمان، راعى الكنيسة المعلقة، خادماً ثم كاهناً فى الكنيسة المعلقة يرى أنها كافية لارتباطه الروحانى بالكنيسة «أقترب أكثر من أيقونات الكنيسة وأهمها أيقونة العذراء التى يُطلق عليها «الموناليزا» لأن تصميمها أشبه بلوحة الموناليزا الشهيرة التى يشعر الناظر إليها أنها تلاحقه بعينيها أينما ذهب، كما اقتربت من رفات القديسين مارجرجس وأبوسيفين وأبسخيرون القلينى المحفوظة لدينا فى الكينسة المعلقة، كما اكتشفنا البوابة التى دخل خلالها عمرو بن العاص وجنوده حصن بابليون».