ألم تدهشك الزوبعة التى أثارها بعض من غلاة المتشددين الدينيين حول خطر التشيع فى مصر، إلى حد تسيير المسيرات وحشد الوقفات الاحتجاجية أمام مقرات ممثلى دولة إيران فى مصر لمجرد وصول عدد من السياح من إيران، بينما يرتع السياح الصهاينة ومن الدولة العدو إسرائيل فى ربوع مصر، خاصة فى سيناء، دون أن نسمع من هؤلاء ولو همهمة اعتراض؟ ويثير الريب كذلك أن من يحملون على الشيعة هذه الحملات الشعواء هم أنفسهم من يؤججون نار الفتنة الطائفية فى مصر باضطهاد إخوتنا فى الوطن من المسيحيين، وكلها عوارض لتعصب مقيت وانغلاق كئيب يورثان الركود والخيبة. فليست الشيعة إلا فرقة من المسلمين، تمثل نحو 10% فقط من جملة المسلمين فى العالم، يميزهم أنهم يولون مكانة خاصة لأهل بيت النبى الكريم. ولا ريب فى أن بعض معتقدات الشيعة وممارساتهم لا تتفق وشعائر المذهب السنى السائد فى البلدان العربية، ولكن هذا الاختلاف لا ينفى عنهم التدين بالإسلام، ومن ثم يجب أن يكونوا من أقرب خلق الله إلى المسلمين فى مصر، الذين يكنون محبة خاصة لآل النبى؛ أولاً: لأن الشيعة مسلمون، وثانياً: لأن المصريين يحبون سبط النبى وعترته ويَسْمون بقدرهم. ولفهم منطق الشيعة كجماعة إسلامية لا بد من العودة للتاريخ قليلاً لكى يكون الموقف مبنياً على الفهم لا الجهل والتعصب أو على دوافع سياسية آنية. تعد معركة كربلاء فاصلة فى تطور الفكر الشيعى، حيث إن مأساة كربلاء واستشهاد الحسين بطريقة مأساوية ومفزعة ألهبت مشاعر الشيعة وجعلت ذهنية الشيعة تنزع إلى اعتماد أسلوب الثورة على السلطة المستبدة وإعلان الحسين شهيدهم رمز المظلوم فى الجحيم البشرى التعس. فبعد معركة كربلاء نجد الفكر الشيعى يتحول فى بعض نواحيه إلى فكر ثورى ويتحول الحسين إلى الشخصية التى يرى الشيعى فيها رمزاً للمظلوم والغربة. وللأسف طبع العنف تجاه الشيعة تاريخ العلاقات بين الأغلبية السنية والأقلية الشيعية فى كثير من الأحيان، وكان كثير من الحكام السنة ينظرون إلى الشيعة على أنهم تهديد لسلطتهم، سواءً السياسية أو الدينية. لذلك سعى الحكام السنة تحت الحكم الأموى لتهميش الأقلية الشيعية، وتلاهم العباسيون الذين سجنوا الشيعة واضطهدوهم وكثيراً ما قتلوهم ظلماً. وكثيراً ما اضطُهد الشيعة على مر التاريخ من المسلمين السنة فى ممارسات اتسمت بالبطش الهمجى وصولاً إلى الإبادة الجماعية. والمثل التاريخى الفادح على اضطهاد الشيعة هو ما جنى السلطان العثمانى سليم الأول، الذى يُعرف بصفات سلبية مثل العابس والرهيب، لأنه وصل إلى عرش السلطنة بعد انقلاب قام به على والده بدعم من الإنكشارية ونجح بمؤازرتهم فى مطاردة إخوته وأبنائهم والقضاء عليهم جميعاً، حتى لم يبقَ له منازع فى الحكم، وماذا يتوقع ممن يعامل أشقاءه وأبناءهم هكذا؟ وفى عام 1514 أمر السلطان سليم بمذبحة راح ضحيتها 40 ألفاً من الشيعة بالأناضول، وأعلن أن من قتل واحداً من الشيعة له أجر فى الآخرة بقدر قتل 70 من المسيحيين. وفى هذا خطل شديد، فقتل نفس بغير حق مُحرّم فى الإسلام كقتل الناس جميعاً، والقتل على الهوية الدينية جرم أكبر، وقتل مسيحى جريمة قتل واحد من أهل الكتاب، وقتل شيعى جريمة قتل أخ مسلم، ولكن هكذا كل البغاة، يُغوون البسطاء بالأجر فى الآجلة حتى يمنعوه فى العاجلة. ولم تكن هذه المذبحة الشنعاء إلا حلقة فى صراع سياسى مرير على النفوذ فى المشرق بين العثمانيين والصفويين فى إيران. وتعود واقعة اضطهاد شريرة أخرى إلى العام 1801، حين قامت الجيوش الوهابية التابعة لآل سعود بالهجوم على كربلاء، وهى المدينة العراقية القائم بها ضريح الحسين بن على، ويجرى فيها إحياء ذكرى وفاته، فسوّت المدينة بالأرض وهدمت الضريح. ومن هنا قد نجد بعض مفاتيح لفهم عداء بعض غلاة السلفيين، القائم على التعصب والجهل، للشيعة ولإيران كليهما؛ فالتعصب يبدو وكأنه اتباع أعمى لموقف سلطان عثمانى طاغية وبربرى مثل سليم الأول، أو فكر وممارسات الوهابية المتشددة والمعسِّرة على خلق الله، التى توسلت العنف منذ نشأتها. كما نجد تفسيراً للربط بين العداء للشيعة والمسيحية معاً كما أخطأ سليم الأول خطأً فاحشاً، فالشيعة والمسيحيون ينتمون لدين الله الواحد، والشيعة يتعين أن يكونوا حتى أقرب للمسلمين السنة لانتمائهم الأصيل للإسلام. والتعلل بغرابة الشعائر الدينية للشيعة أمر مردود عليه، فإطلاق حرية أهل الكتاب فى العبادة أمر مستقر فى إسلام السلف الصالح، وتاريخا فتح بيت المقدس ومصر على التحديد يؤكدان هذا المبدأ الإسلامى النبيل. بل إن إسلام السلف الصالح أباح حرية التعبد للذميين عبدة النار من المجوس والزرادشتيين، وظلت النيران مشتعلة فى بيوت عبادتهم لفترة طويلة بعد انتشار الإسلام فى أراضيهم.. فلماذا التعسير والتشدد الآن؟ إن البارى (عز وجل) يطلق حرية الاعتقاد فى إطار مسئولية الفرد أمام الخالق: «قُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً» (الكهف، 29)، ويخاطب القرآن أكرم الخلق خاتم الرسل بالقول: «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ» (الغاشية، 21-22). فلماذا يريد البعض منع ما أباح الله؟ ولماذا يتعاملون مع الشيعة والمسيحيين وكأنهم كفار، وهم مسلمون أو أهل كتاب؟ ولماذا يتطاول البعض فيضع نفسه بمنزلة أعلى من الرسول، ويعطى نفسه حق الجبر والقهر؟ إن محاولة فرض تأويل متشدد ومعسِّر للإسلام بالقسر والعنف تحتاج لتفسير نفسانى، وربما تنبع من ضعف وقلة ثقة بالنفس وبالمذهب، وهى دليل اتباع أعمى لبعض شواذ التاريخ الإسلامى المنحرفة عن سنن السلف الصالح، وتنم عن انغلاق يورث الجمود والتخلف. وقد عُنيت بالنظر فى الاجتهاد الفقهى الإسلامى فى مسائل الحكم والاجتماع وقضايا الوطن العربى المعاصرة، مثل اكتساب المعرفة والحكم الديمقراطى الصالح ودور النساء فى المجتمع، وكثيراً ما وجدت الاجتهاد الفقهى الشيعى أكثر استنارة وتقدمية من الاجتهاد الفقهى السنى فى هذه المسائل. وعبر التاريخ كانت مواقف الشيعة فى السياسة والاجتماع تميل إلى التمرد على السلطة الجائرة والتحرر من ربقة الاستعباد، ربما بسبب تاريخ الاضطهاد الذى عانوه، بينما اتسم الموقف السنى على الأغلب بالخضوع والاتباع. من هنا نفهم انزعاج دول الخليج والجزيرة العربية التى تحكمها استبداداً عائلات سنية وتعيش فيها أقليات شيعية. ولكن ما لا يمكن فهمه هو الحملة الشعواء التى يشنها غلاة السلفيين على الشيعة وإيران، وثارت مؤخراً بمناسبة وصول بعض السياح من إيران لمصر. ولننظر الآن فى موقع إيران فى الواقع السياسى والتنموى للمنطقة التى نعيش فيها. باستثناء تركيا الدائرة فى فلك الغرب والقريبة تقليدياً من إسرائيل -وقد زالت الجفوة بينهما مؤخراً بوساطة مباشرة من الرئيس الأمريكى أثناء زيارته الأخيرة للمنطقة- فإن إيران هى الدولة الإسلامية الوحيدة الصاعدة فى المنطقة، سواء فى المعرفة أو التقانة أو التسليح، وتأكيداً ليست السعودية أكبر الدول العربية وافرة الغنى على الرغم من موقعها الإسلامى المتميز الناتج عن احتضان أراضيها للحرمين الشريفين. وعلى الرغم من أن نظام الحكم فى إيران دينى استبدادى بلا أدنى شك، فإنه يتميز بحيوية واضحة تتبدى فى تداول متكرر لرأس السلطة التنفيذية بين اتجاهات سياسية متباينة. ومنذ متى نقاطع فى مصر الدول الاستبدادية والسياح منها؟ على أى حال فمنطقتنا ملأى بمثل هذه الدول، ولا نألوا جهداً فى تيسير دخول مواطنيها مصر إلى حد عدم اشتراط تأشيرات الدخول، بينما هم لا يعاملوننا بالمثل ويعسِّرون على مواطنينا فى دخول بلادهم ولو للحج ويسيئون معاملتهم؟ وعلى الرغم من بعض التضييق الشكلى على النساء، مثل ارتداء الحجاب الذى نجحت الإيرانيات فى التحايل عليه ولم يعد يشكل لهن عائقاً، فإن وضع المرأة فى إيران على المؤشرات الموضوعية للتمكين فى الدولة والمجتمع أفضل من جميع البلدان العربية. والخلاصة أننا مهما اختلفنا مع إيران الدولة فى أشياء وهو حقنا، إلا أن تجربتها، ومن ثم العلاقات الجيدة معها، يمكن أن تفيدنا فى مصر، ما لا يستقيم معه العداء السافر لها وللشيعة من قبل بعض غلاة المتشددين. والحق أن التخوف الزائد من تشيع المصريين يشكك فى صحة عقيدتهم، وهو منطق مرفوض أصلاً. فى النهاية نتساءل: من يعادى إيران فى المنطقة والعالم؟ والإجابة باختصار حاسم وقاطع: أمريكا وإسرائيل وحلفاؤهما فى المنطقة، يعادون إيران والشيعة بالتبعية عداوة التحريم إلى حد التهديد بشن الحرب على إيران تكراراً. وللقارئ أن يربط بين النقاط لتكتمل الصورة.