ويظل الباب مفتوحاً أمام كل إنسان ليقرر ما يختار لنفسه: أينضم إلى الشرفاء وينتصر للحق والعدل ويدعم الخير والجمال، أم يفضل أن يكون خسيساً فى حظيرة الشر والظلم والقبح والخداع؟ صراع أبدىّ يدور فى عقل الإنسان وينعكس بالضرورة على تصرفاته وسلوكه! كانت هذه هى الخواطر الأولى التى جاءتنى وأنا أتلقى أخباراً بالغة التعاسة بشأن ماراثون بوسطن.. آلمنى كثيراً أن يلوث خسيس ذلك المناخ الطاهر البرىء الذى يميز كل ماراثونات العالم.. استطاع عدو للقيم الإنسانية النبيلة أن يعكر صفو أحد أنظف الممارسات البشرية، ويصيب الملايين حول العالم بالاكتئاب! وماذا بقى لنا؟ سؤال يطرحه المسالمون المؤمنون بنقاء الرياضة وروعة التنافس الشريف وغير ذلك من القيم التى يحرص عليها مجتمع الماراثونات الراقى، أذكر منها -على سبيل المثال لا الحصر- تنمية النفس وتدريبها على مواجهة التحديات.. الاستعداد الجيد والبناء المتدرج للوصول إلى المستوى الذى يؤهل صاحبه لإتمام هذه المهمة الشاقة والمتمثلة فى إنهاء مسافة اثنين وأربعين كيلومتراً وخمسة وتسعين متراً.. احترام القواعد والحرص على سلامة المنافسين وعلى عدم تعطيلهم.. وقبل ذلك كله تقدير من يتفوق عليك واتخاذه مثلاً أعلى بدلاً من الحقد عليه ومحاولة تشويهه، كما يحدث فى بعض مجالات التنافس الأخرى. لقد شاركت فى ماراثونات عدة حول العالم وفى مصر، ولمست بنفسى الروح السائدة فى كل مكان: سلام وأمان ومودة.. تفاؤل وتعاون ومساواة. الكل يستيقظ مبكراً، ويلتزم بأدق تفاصيل القواعد والتعليمات التى تحددها اللجنة المنظمة.. لا يتعالى أحد على الأوامر، سواء كان متسابقاً أو مرافقاً لمتسابق، أو مشاهداً عاديّا، أو إعلاميّا، أو طبيباً، أو مسعفاً، أو متطوعاً للمعاونة والتنظيم.. كل واحد يعرف دوره جيداً، ويؤديه بأعلى درجات الإتقان. وعلى الرغم من معاناة الجرى لعدة ساعات، فإن السعادة لا تفارق قلوب الجميع، حتى وإن اختفت الابتسامة أحياناً خلف ملامح الإرهاق الظاهرة. يتفنن أهل المدينة فى التخفيف عن المتسابقين بعزف الموسيقى وهتافات ولوحات التشجيع، كلها بالطبع خالية تماماً من أى مظاهر للتعصب البغيض أو السخرية من أحد أو غير ذلك من أشكال التشجيع المريض! الأخير فى الماراثون يحظى بالتشجيع والاحترام، وهو ما لا يحدث عادة فى رياضات أخرى، خصوصاً فى المجتمعات التى تستهين بكرامة الإنسان، أو تلك التى يُغيّب فيها الناس عقولهم بالمخدرات والخمور، فيأتون أفعالاً يخجلون منها بمجرد أن يزول عنهم تأثير المخدر، فيعودون إليه كى ينسوا عارهم، ويدخلون فى دائرة لا مخرج منها إلا فيما ندر.. شفاهم الله وأعان الصادقين منهم على كسر الدائرة السوداء. أعود لبوسطن، وأقول: إن مثل هذه الأعمال الخسيسة لن تتوقف، وإنها ستظل تنهش فى الأبرياء كالحيوان المسعور الذى تزيده الدماء سعاراً وفتكاً. أما البدائل المطروحة والمباشرة فهى مزيد من القيود ومعايير تفتيش الأشخاص والمركبات والحقائب.. . وكلها -بكل أسف- عقوبات وتكدير للأبرياء قبل أن تكون تعطيلاً للمجرمين الذين لا يعدمون الحيلة لاكتشاف الثغرة. إذا كنا نريد عالماً أفضل، فليس أمامنا إلا تقوى الله، وتطبيقات تربوية طموحة لتنشئة أجيال تنحاز أكثر لقيم الحق والعدل والخير والجمال، مع ضرورة التمسك بضمان حرية الاختيار لكل إنسان، إلا إذا بلغت به الخسة محاولة تدمير الآخرين، ويبقى الإنسان مسئولاً عن تصرفاته سواء فعلها بمحض إرادته أو بتحريض من آخرين يشاركونه نفس درجات الخسة.