منذ اللحظة الأولى التى دعت فيها جماعة الإخوان الحاكمة إلى تنظيم مليونية لتطهير القضاء احتجاجاً على إخلاء سبيل «مبارك» على ذمة قضية قتل المتظاهرين، والمواطن العادى فى الشارع وعلى صفحات التواصل الاجتماعى يعبّر عن اندهاشه وسخريته من هذه المليونية الفضيحة، فقد جرت العادة فى العالم كله -وعبر تاريخ الاحتجاج- أن يخرج المواطنون إلى الشوارع فى مظاهرات ضد الحكام لإجبارهم على تلبية مطالبهم، أو للاحتجاج على مواقفهم من قضايا دولية، أما أن يدفع الحاكم أنصاره إلى الشوارع فى حشود كبيرة ترفع مطالب محددة، فهو أمر شاذ لا يلجأ إليه «حاكم» إلا إذا كان من طراز خاص. والحقيقة أننى لا أعرف حاكماً تجسد فيه هذا الشذوذ السياسى، إلا الزعيم الليبى الراحل معمر القذافى، فقد دخل الأدبيات السياسية بوصفه أول حاكم يحرّض شعبه على التظاهر، وأول حاكم يضع المطالب التى يريدها على لسان المتظاهرين، ولكنه كان أقل خبثاً ولؤماً من جماعة الإخوان الحاكمة، لأنه كان يخرج بنفسه فى المظاهرات، بل كان يهتف بالشعارات على رأس المظاهرة الحاشدة، ومواطنوه المساكين يرددون خلفه هذه الشعارات، وقد اعتادت وسائل الإعلام العالمية أن تتعامل مع هذه الظاهرة بوصفها نكتة أو طرفة لا تستأهل تحليلاً أو تقييماً. والمدهش أن الدكتور محمد بديع، المرشد العام لتنظيم الإخوان الذى استولى على الحكم، اختار لنفسه ولجماعته أن تمضى على خطى القذافى، فإذا به يدفع بأفراد الأهل والعشيرة إلى التكالب من كل محافظات مصر والاحتشاد أمام دار القضاء العالى للمطالبة بتطهير القضاء من قضاة النظام السابق، والمطالبة بالإفراج عن الشاب عبدالرحمن عز الذى رصدته الكاميرات وشاهده العشرات وهو يحرق بنفسه مقر حزب وجريدة الوفد. والمقزز فى الأمر كله أن أى مواطن عادى يعرف ويفهم أن هذه المظاهرة أو المليونية الإخوانية لا توجّه رسائلها للحاكم لأنه واحد منهم، ولا ترفع مطالب جماهيرية تعبر عن المواطن المصرى الذى حاصرته هموم توحش الأسعار وأزمة المرور والبطالة وتراكم القمامة فى الشوارع وانهيار الخدمات فى المستشفيات والمدارس والجامعات، وانقطاع الكهرباء والمياه واختفاء السولار فى ظل حكم الإخوان، لأن هذه الهموم تحديداً، وكل معاناة المواطن العادى هى أساساً من صنع الإخوان ومن تدبيرهم المتعمد لإنهاك المواطنين وصرفهم من ميادين الاحتجاج إلى الانكفاء خلف لقمة عيش لا تتوفر إلا بالكاد! ما يريده الإخوان إذن من هذه المليونية هو استخدام واقعة إخلاء سبيل الرئيس السابق على ذمة قضية قتل المتظاهرين، لتحقيق أهداف أخرى لا علاقة لها إطلاقاً بدماء الشهداء ولا بمواجع وفواجع أسر الشهداء والمصابين، والأهداف تتلخص فى تمهيد الأجواء لتجريف مؤسسة القضاء المصرى، وإخلائها من كل القضاة المستقلين فى عملهم، والدفع بآلاف الإخوان من المحامين وخريجى الحقوق لملء هذا الفراغ، والسيطرة الكاملة على السلطة القضائية، لأنه بدون هذه السيطرة فلن يتمكن الإخوان من إنجاز بقية مشروعهم فى التمكين، ولن يتمكنوا من تمرير مشروعاتهم المشبوهة، التى تبنى التنظيم محلياً ودولياً وتهدم الوطن، ولن يستطيعوا إسكات الأصوات الفاضحة لمشروعهم المخيف، لأن القضاء المستقل سيقف عائقاً أمام تحقيق هذا الهدف. إن «تطهير القضاء» الذى يريده الإخوان، هو باختصار محاولة للإطاحة بكل الآمال المتبقية فى «الإمساك» بالجرائم التى ارتكبها الإخوان فى حق الوطن، و«الطرمخة» على أدلة اختطاف وتعذيب وقتل النشطاء، والإفلات إلى الأبد من كل العقوبات التى تنتظر هؤلاء الذين حرّضوا وموّلوا عمليات اغتصاب النساء المنظمة فى ميدان التحرير.. كما أن «التطهير» يعنى بالنسبة لهم: حبس وتدمير من يريدون حبسه وتدميره.. والإفراج الفورى عن كل المجرمين والبلطجية وأفراد الميليشيات الذين ارتكبوا جرائم مروعة فى حق هذا البلد، ومن بينها جرائم قتل وقنص المتظاهرين فى الميادين أثناء الثورة وخلال المرحلة الانتقالية. هل سينجح «الإخوان» فى إنجاز مشروع «تطهير القضاء» الذى يرقى بامتياز إلى درجة الخيانة العظمى للوطن؟ قد ينجحون لبعض الوقت.. ولكننا حتماً سنعيش حتى نرى بأنفسنا مشهد سحل وانتهاك آدمية القذافى وقتله بطريقة وحشية يتكرر فى مصر.. ليس مع شخص واحد، ولكن مع كثيرين نعرفهم الآن بالاسم!