لو أن شخصا أو جهة ما، رافضة للإخوان المسلمين ومنافسة لحزبهم «الحرية والعدالة»، أرادت أن تقلل من شعبيتهم وتقلص من نفوذهم، لما سجلت أبدا نجاحا مثل الذى سجله الإخوان أنفسهم! لقد أفلح الإخوان -بعبقرية يُحسدون عليها- فى أن يخلقوا رفضا شعبيا متزايدا لهم، بعد أن كان ذلك الرفض أقرب إلى «النخبوية»، وفضلا عن ذلك، فإن الاختلاط المعيب بين «الحزب» و«الجماعة» أضر بشدة بكليهما! فالإخوان اعتبروا أنفسهم وجماعتهم «الأصل» الذى لا ينبغى تجاهله أو تجاوزه، حتى لو أدى ذلك إلى التدخل فى عمل الحزب والتحدث عنه! والحزب بالطبع يحب ألا يبدو بمظهر الناقد للجماعة أو المختلف عنها، حتى لو شعر قادته بذلك الأمر وتضرروا منه! فى هذا السياق، برز فى الأيام القليلة الماضية عدد من القضايا التى تعمق الإحساس الشعبى بذلك الانفصال، بل وربما النفور من الإخوان وحزبهم، سواء بسبب ممارساتهم، أو بسبب بيانات وأقوال صرح بها بعض قياداتهم أو رموزهم! ولم نر منهم رفضا لها أو تنصلا منها! إن القاسم المشترك بين القضايا التى أعنيها هو فى الواقع رفض، أو التناقض مع، قيمة «الدولة» التى تجسد الأمة المصرية الحديثة، منذ أن وضع أساسها المعنوى والمادى «محمد على» قبل مائتى عام، ومنذ أن تبلورت فعليا فى القرن الماضى عقب ثورة 1919 وبروز «مصر»، ك«دولة - أمة» مستقلة فى عشرينات القرن الماضى. أقول: هذه الدولة التى وضع أساسها محمد على باشا، والتى شكل هويتها الحديثة «الوفد المصرى» بزعامتيه التاريخيتين: سعد زغلول ثم مصطفى النحاس، التى أعطاها جمال عبدالناصر والضباط الأحرار زخما ثوريا وعروبيا، هى التى تتعرض اليوم للانتهاك على يد الإخوان المسلمين! إن أول ما يتبادر إلى الذهن هنا هو ذلك الموقف المشين من رمز «الدولة» وعمودها الفقرى، أى: الجيش المصرى! لقد أُصبت بدهشة شديدة وأنا أقرأ «الوطن» (7 أبريل) نص «قصيدة» قيل إن الذى كتبها شخص اسمه محيى الدين الزايط وعرف بأنه «عضو مجلس شورى الإخوان»، وأنه كاتب رسائل المرشد الأسبوعية! فماذا قال السيد الزايط فى قصيدته العصماء؟ قال بالنص: «قد تركوا مسجدنا الأقصى نهبا لشراذم أشرار، شعبى فى غزة يشرب من دمه الأقذار، ولو كان لديهم إحساس لتحرك جيش جبار، قد خابوا فى كل سبيل قد ضلوا فى كل قرار، فى السلم تراهم فرسانا، فى الحرب خراب وفرار، ما قيمة جيش إن كان من يقودهم الفار؟!».. وبعد انتهائه ضحك الحاضرون!! فقال لهم: «جيشنا عزيز، بس عايز قيادة»!! إننا إذا نحّينا جانبا تلك «القصيدة» (!)، التى هى ليست إلا كلاما «مسجوعا» ساذجا لا يرقى إلى أن يكون زجلا رديئا.. فإن أبرز ما يلفت النظر فيها هو النفاق أو الازدواجية التى تتبدى على مستويين، الأول: مستوى علاقة الإخوان بالجيش المصرى، التى يجتمع فيها التملق والمداهنة من ناحية، مع الإهانة بالغمز واللمز من ناحية أخرى، خاصة أن هناك أقوالا بنفس المعنى لقيادات إخوانية أخرى! أما المستوى الثانى للازدواجية فهو فى التعامل المعلن مع القضية الفلسطينية (والمسجد الأقصى، وغزة... إلخ) الذى يصوغ المزايدة السياسية والشعارات الحماسية الجوفاء، الموجهة للشعب والرأى العام من ناحية، والعلاقات الفعلية الحميمة -بواسطة أمريكية- مع الإسرائيليين، من ناحية أخرى، التى تجسدت فى لعب حكومة الإخوان دورا رئيسيا فى حماية إسرائيل من «صواريخ» حماس! فى ضوء هذا الموقف من «الجيش» المصرى، ليس غريبا على الإطلاق ما أثير مؤخرا عن استهانة الإخوان ورئيسهم ب«إقليم» الدولة المصرية، المتمثل فى إثارة قضية «حلايب وشلاتين» على الحدود المصرية - السودانية. لقد ذكرتنى إثارة ذلك الموضوع -بالتزامن مع زيارة د. مرسى إلى السودان- بواقعة كنت شاهدا عليها فى فترة رئاستى لتحرير مجلة «السياسة الدولية» بمؤسسة «الأهرام»؛ حيث جاءنى خطاب (أرسل فى حينه غالبا لجميع الصحف) من المخابرات الحربية تنبه فيه إلى ضرورة ملاحظة الرسم السليم لحدود مصر الجنوبية فى شكل خط مستقيم يشمل منطقة حلايب وشلاتين فى أقصى الجنوب الشرقى عند البحر الأحمر؛ لأن هناك بعض الخرائط القديمة (وضعت فى ظل الاحتلال الإنجليزى لمصر) تضم مثلث حلايب إلى السودان، غير أن المشكلة هذه المرة ليست فى نشر خريطة بطريق الخطأ وإنما فيما ورد على لسان صلاح باركدين، الناطق الرسمى باسم موسى محمد أحمد، مستشار الرئيس السودانى عمر البشير، من أن الرئيس مرسى «وعد بمناقشة كيفية عودة مثلت حلايب لحاله قبل 1995». باعتبار أن تلك المشكلة ضمن «العقبات» التى تواجه العلاقات بين البلدين! ولقد ذكر المتحدث باسم رئاسة الجمهورية السفير إيهاب فهمى أن الرئيس «لم يتعهد» خلال زيارته للخرطوم بإعادتها للسودان، وهذا تصريح لا ينفى التعهد بمناقشة الموضوع، كما قال المتحدث السودانى! وتقديرى أن كلام المتحدث السودانى صحيح، خاصة فى ضوء الرؤية «الإخوانية» لتلك القضايا، التى عبر عنها بشكل صريح وفج السيد محمد مهدى عاكف، المرشد العام السابق للجماعة، بتذكيره بأن الجماعة «لا تعترف بالحدود بين الأقطار العربية والإسلامية»!! وأنه «سواء كانت حلايب فى الجانب المصرى أو الجانب السودانى، فالمستقبل للأمة الواحدة التى يجمعها هذا الدين وهذه اللغة»! وهو حديث يستلزم بالضرورة توضيحا من رئاسة الجمهورية؛ لأن إثارة الموضوع أصلا بالتزامن مع زيارة الرئيس مرسى للسودان تفتح الباب لكل الشكوك! وكلام السيد «عاكف» -من وجهة نظر السيادة المصرية والأمن القومى المصرى- أيضا يستدعى الفحص والمساءلة الجادة! ولعلنى هنا أستعيد الكلمات الواضحة للسيد اللواء حسام سويلم، المدير السابق لمركز الدراسات الاستراتيجية للقوات المسلحة، التى جاء فيها «أنه لا يستبعد أى شىء من نظام الإخوان، خاصة أنهم من الناحية الأيديولوجية لا يعترفون بالوطن ويعترفون فقط بدولة الخلافة» وأن النظام الإخوانى «لن يتورع عن التنازل عن حلايب وشلاتين لصالح التشكيلات الإخوانية المماثلة فى السودان، وفى حماس بسيناء»، وذلك فى الحقيقة تقدير يتفق تماما مع ما قاله السيد مهدى عاكف! لقد ذكّرنى هذا الحديث حول حلايب وشلاتين بما كنا ندرسه فى التاريخ السياسى حول إقليم «الألزاس واللورين» على الحدود الفرنسية - الألمانية، الذى كان أحد أسباب الحروب المريرة بين الدولتين، فضلا عن الحربين العالميتين الأولى والثانية؛ ففى ذلك الوقت لم يوجد فى أى من البلدين من يتمتع بحكمة وبصيرة السيد مهدى عاكف ويقول للألمان أو الفرنسيين إنه لا داعى للتنازع حولهما.. فنحن جميعا مسيحيون وأوروبيون، وسيان أن يكون الألزاس واللورين ضمن الأراضى الفرنسية أو الألمانية! وأخيرا، واتساقا مع هذا الموقف الإخوانى إزاء «الدولة» لم يكن غريبا أيضا أن يتحفنا مجلس الشورى (ذو الأغلبية الإسلامية) بحذف النص الذى يقضى ب«حظر الشعارات الدينية» من قانون الحقوق السياسية، وهو الأمر الذى أدى إلى انسحاب ممثلى أحزاب «الوفد والمصريين الأحرار والمصرى الديمقراطى وغد الثورة» والنواب الأقباط من جلسة «الشورى» اعتراضا على ذلك. وليس معنى ذلك التوجه سوى أن تتحول العملية السياسية والانتخابية فى مصر من عملية «سياسية - مدنية» إلى عملية «دينية - طائفية»، تتبارى فيها الأحزاب السياسية، ليس وفق ما تقدمه للناخب من برامج وسياسات تتناول أوجه حياته المختلفة فى الاقتصاد وإتاحة فرص العمل وتحسين التعليم والصحة وظروف السكن... إلخ. وإنما وفق ما تطرحه من شعارات تجعل من الدين والمشاعر الدينية مجرد أدوات لها للسطو على أصوات الفقراء والأميين، فلا هى تحترم الدين، ولا هى تقدم حلولا أو سياسات جادة ومدروسة. غير أن يقينى هو أن هذا الأسلوب -بالتجربة، وبالخبرة المباشرة للمواطن المصرى الذكى- لن يفلح دائما، وسوف يفقد جاذبيته القديمة؛ فالمصريون، بعد حكم الإخوان وتجربة الإخوان، يختلفون عنهم قبلها. وسوف ينتصرون فى النهاية للدولة المدنية الحديثة، دولة المواطنة وحقوق الإنسان، التى ناضل المصريون من أجلها تحت شعار «عيش - حرية - عدالة اجتماعية»، وليس أى شعار غيره!