على الرغم من كل ما يقال عن تراجع وانحسار الدولة البوليسية فى مصر، فإن بعض آثارها والكثير من ملامحها وأشباحها ما زال يتراقص على الساحة، ويذكرنا بأن أمنياتنا فى التحرر لن تتحقق إلا بتعقب كل هذه المظاهر السلبية والقضاء عليها. فى عصر ما قبل المدنية تفنن «ترزية» الحكم فى صياغة القوانين واللوائح التى تحتمل «ألف تأويل وتأويل»، حتى يستحيل أن يفك ألغازها أحد، ويسهل توجيه الاتهامات لأى مغضوب عليه، فيتم اعتقاله فوراً، والباقى معروف. كان لهذه القوانين واللوائح الفاسدة دور عظيم فى تمكين المسئول من استعباد العاملين فى أى قطاع تابع له؛ موظف الحكومة راتبه الأساسى مائة وخمسون جنيهاً، ولكنه يمكن أن يقبض أضعاف هذا المبلغ من أبواب مريبة وغير قياسية. يبدو هذا لأول وهلة إنصافاً وتصحيحاً واجباً، ولكنه فى الحقيقة إحكام لقبضة المسئول حول رقبة الموظف المسحول نفسيًّا! قامت الثورة، وتوالت الوزارات، ولم تتغير هذه الصورة، وكيف تتغير فى ظل حكومات الترانزيت التى تعيش يوماً بيوم كعمال اليومية والأرزقية؟ تراث طويل من عصور الظلام آن له أن ينقشع مع سطوع شمس الثورة. ملمح آخر نعانى منه فى عالم الفنون والثقافة، ذلك العالم الذى طالما أرّق أعداء الرأى والفكر والفن والإبداع، فتفننوا فى إبداع قوانين القهر والسيطرة، ومن هذه القوانين قانون ردىء سيئ السمعة، أطلقوا عليه «ضريبة الملاهى». من فرحتهم به سموه بالملاهى! وكيف لا يفرحون به وهو يحقق لهم عدة أهداف شيطانية؟ أولاً: يسمح هذا القانون باقتحام مفتشيهم للأماكن بدعوى معرفة نوع الموسيقى التى تُعزف! ثانياً: ممارسة الضغوط على المطربين والعازفين والتلويح بمعاقبتهم بالقانون، إذا بدرت منهم أو ظهرت عليهم أى علامات أو أعراض لحرية التعبير أو توجيه النقد لمن كُلّفوا بحمايتهم ووضعهم فوق القانون. ثالثاً: يساعد قانون الملاهى وضريبتها الهلامية على نشر الفساد والرشوة لضرب عصفورين بحجر واحد؛ فتح مصدر لمنحرفى المفتشين لتنمية مواردهم، وترسيخ فكر الممارسات القذرة. دعونى أخبركم عن أبغض ما فى قانون ضريبة الملاهى الذى أتحفظ عليه تماماً؛ إن أكبر دليل على صدق كلامى هو تمييز القانون بين أنواع الموسيقى، وهو أمر غير دستورى على الإطلاق؛ كيف تكون الضريبة على الموسيقى الشعبية المصرية خمسة أضعاف ما يُفرض على الموسيقى الكلاسيكية العربية والأجنبية؟ أعرف أنها تقسيمات مضحكة، ولكنه الفكر البوليسى المحكم! لاحظوا أن الصداع كان يأتى من أغانى الشباب التى ظهرت وقتها، وكانت تمثل بدايات تهور المبدعين واقترابهم من عش الدبابير، فجاءت ضريبتها على أقصى نسبة، وهى خمسة وعشرون بالمائة من قيمة التذكرة، دون اعتبار لأى مصروفات يتحملها الفنانون أو جهة العرض! وحيث إن قانون ضرائب الملاهى يميز بين الموسيقى والموسيقى، فإنه لا يتأخر كذلك عن التمييز بين الموسيقى والمسرح، وغير ذلك الكثير مما يطلق عليه الشباب: «ضحك»، بمعنى أنه لا يمكن أن يكون كلاماً جادًّا. أما القائمون على تطبيق «الملاهى»، فقد أصبحوا هم الآخرون ضحية له؛ ذلك أنهم لو تقاعسوا عن تطبيقه بكل سوءاته، فإنهم يُعرّضون أنفسهم للمساءلة من رؤسائهم. نسبة الضريبة الحالية تتراوح بين خمسة وخمسة وعشرين بالمائة من تذكرة الدخول، واقتراحى هو إلغاؤها تماماً أو توحيد النسبة لتصبح سبعة أو ثمانية بالمائة على أقصى تقدير. أثق أن هذا التعديل لن تكون له أى سلبيات، اللهم إلا إذا كان هناك من يتمسك بالدولة البوليسية. هيا يا شورى، فرصة سهلة لتحقيق العدالة. أرجو ألا ننتظر طويلاً.