(1) للدقة، المقصود هنا المشروع الغربى - الصهيونى، والذى تحول فى عصر القطب الواحد فى المعترك الدولى إلى المشروع الأمريكى - الصهيونى فى المنطقة العربية، والمشروع فى جوهره استعمارى إمبراطورى ويهدف إلى ضمان مصالح الدول الغربية المتنفذة فى الساحة الدولية، وعلى رأسها سيطرة الرأسمالية العالمية بقيادة الشركات الغربية العملاقة متعددة الجنسيات، وضمان تدفق النفط والغاز من منطقة الشرق الأوسط لتموين النشاط الاقتصادى فى الغرب، ولضمان هذه الأهداف عمد إلى تعويق وحدة العرب بزرع كيان استيطانى وعنصرى دخيل فى قلبها لكى يستبعد احتمال أى مقاومة للمشروع تتأتى من الوحدة العربية، والحفاظ على أمن واستمرار هذا الكيان المُمزِّق لوحدة الأمة بعد قيامه، خدمة للغرضين السابقين من ناحية، ولحل عقدة الذنب الغربية تجاه اليهود من ناحية أخرى، كذلك عمد أصحاب المشروع إلى دعم الحكم التسلطى فى المنطقة، فهم يعلمون يقيناً أنهم لا يملكون تعاطف شعوب المنطقة، بل إن مشروعهم يتناقض مع طموحات الشعوب المشروعة فى الحرية والعزة والكرامة، ومن هنا كان دأبهم اصطناع طغاة يغتصبون إرادة الشعوب ويطوعون الدول التى يحكمونها لخدمة مصالح المشروع. وللتوضيح بداية، لا يدور على الإطلاق بذهن الكاتب أن المشروع هذا كان وراء انطلاق المد التحررى العربى المعاصر وأن الثورات الشعبية التى شكلته كانت مؤامرة خارجية فى سياق هذا المشروع، ولكن لأهمية هذا المشروع لأصحابه، وبسبب القيمة الاستراتيجية للمنطقة العربية فى سياقه، ولمصر فى القلب منها على وجه الخصوص، فعندما اندلعت الثورات الشعبية العظيمة فى تونس ومصر وما تبعهما من بلدان عربية أخرى، كان طبيعياً أن تهرع القوى صاحبة هذا المشروع لمحاولة التأثير على مجريات الأمور ضماناً لسلامة مشروعها بغرض منع قيام الحكم الديمقراطى السليم فى هذه البلدان العربية، خصوصاً مصر بما يشكل تهديداً بالغاً للمشروع ولأغراضه، ولعل القوة الأكبر بين أصحاب المشروع بدأت فى التحضير لبدائل لنظام محمد حسنى مبارك قبل قيام الثورة عندما تأكد لها، فى إطار استشرافها السياسى المستقبلى، ضعف فائدته للمشروع وربما قرب زواله، فالمعلوم الآن أن اتصالات الإدارة الأمريكية بفصائل تيار الإسلام السياسى قد بدأت منذ عام 2003 بوساطة مصرى من خارج التيار معروف بقربه من دوائر تلك الإدارة، وبدأت هذه الاتصالات على أرض مصر، على الرغم من أن التيار بمجمله كان يعد محظوراً من قبل نظام الحكم فى مصر وقتها، الذى كان بدوره يُعد حليفاً أساسياً للولايات المتحدة وخادماً للمشروع فى المنطقة، وبعد اندلاع الثورة الشعبية العظيمة كان من الضرورى أن تتواتر الاتصالات وليس فقط بمن تولوا السلطة، وفى هذا يكمن تفسير أن زيارات كبار المسئولين الأمريكيين، خاصة من المخابرات الأمريكية، المدنية والحربية، المتواترة لم تنقطع قبل قيام الثورة وتكاثفت بعدها، كما يشير سعى كبار المسئولين الأمريكيين الذين زاروا مصر بعد الثورة إلى لقاء قوى خارج السلطة الحاكمة، إلى عودة الإدارة الأمريكية لاستكشاف البدائل لمستقبل سلطة حكم تغشاه مخاطر، وقد قوى هذا الاتجاه مؤخراً، كما ظهر فى زيارة وزير الخارجية الجديد، دليلاً على استشعار الإدارة الأمريكية فشل سلطة الإسلام السياسى فى الحكم، ما يدعو لوصل الجسور الأمريكية مع قوى أخرى بديلة على الساحة السياسية فى مصر. ومعروف أن الجانب الاستعمارى والتمكين للرأسمالية الغربية فى المشروع فيما يتصل بمصر والمنطقة عموماً قديم، على الأقل منذ نهايات القرن الثامن عشر، فقط كانت القيادة للقوتين الكبريين حينها: فرنساوإنجلترا، وبمرور الزمن وتغير حظوظ القوى الكبرى فى الغرب، تبوأت الولاياتالمتحدة هذه المكانة، وتأكدت لها بعد انهيار الاتحاد السوفييتى، وإن لم تصل إلى الاستعمار المباشر إلا فى حالة العراق فى الفترة 2003-2011، مع الملاحظة أن اللجوء إلى الاستعمار المباشر لم تصبح له الأهمية نفسها بعد زرع الكيان الدخيل والعدوانى فى المنطقة العربية المسمى إسرائيل. وعلى خلاف ما يعتقد البعض، فلم يبدأ التخطيط لإقامة إسرائيل بوعد بلفور المشئوم فى 1917، بل قبل ذلك بأكثر من نصف قرن. فمنذ منتصف القرن التاسع عشر، أعلنت القوة الاستعمارية الكبرى وقتها، بريطانيا، عن رغبتها فى زرع دولة يهودية فى وسط الأمة العربية تعويقاً لتوحدها. تحديداً، فى عام 1840 أرسل وزير خارجية بريطانيا «بالمرستون» إلى سفيره لدى السلطنة العثمانية الفيسكونت «بونسونبى» مؤكداً سياسة بريطانيا فى تشجيع استيطان اليهود فى فلسطين، «حيث إن إقامة كيان قومى لهم فيها، سيؤدى إلى إيقاف أى محاولات شريرة فى المستقبل من قبل محمد على أو أى من خلفائه لإقامة كيان موحد بين مصر وسورية الطبيعية». لاحظ أن هذا التوجيه أرسل فى العام نفسه الذى قضت فيه إنجلتراوفرنسا على القوة العسكرية لمحمد على بتحطيم الأسطول المصرى فى موقعة نافارين، وبعدها وقعت معه معاهدة لندن التى فرضت عليه الانسحاب إلى حدود مصر، والسودان وقتها، مقابل أن يكون حكمها وراثياً فى نسله، ثم فى 1917، أصدر اللورد «بلفور»، وزير خارجية بريطانيا، إعلانه المشئوم واعداً اليهود ب«وطن قومى» فى فلسطين، باسم حكومته التى لم يكن لها أن تمنح «الشعب اليهودى» ما لم تملك عليه سلطاناً، بل كان ملكاً خالصاً لأصحابه العرب. وقد تكاتف الغرب لكسر شوكة مصر محمد على فى 1840، بقيادة إنجلتراوفرنسا وقتها، حيث شكّل تكوين مصر الكبرى شاملة بلاد الشام كلها (وكانت تضم، حسب التقسيمات الحالية، سوريا ولبنان وفلسطين) والسودان، تهديداً قوياً لغايات المشروع. وكذلك فعلوا مع مشروع عبدالناصر فى هزيمة 1967، أيضاً بقيادة إنجلتراوفرنسا متحالفتين مع الدولة الغاصبة والعدوانية الوليدة إسرائيل، وبحثٍ موثّق من قيادة الرجعية العربية فى السعودية، وهذا تطور مهم يجب الالتفات إليه، حيث بدأ المشروع يعتمد على وجود طابور خامس فى المنطقة العربية يخدم أغراضه، ويقوى صلاته معه، وستزداد أهمية هذا الطابور الخامس فى أوقات صعود المد التحررى فى المنطقة والذى قد يتهدد نجاح المشروع. وهذه مسألة جوهرية، فأصحاب المشروع على يقين -وهو صحيح وأكدته الخبرات التاريخية- أن صعود أنظمة حكم ممثلة للشعوب العربية ومعبرة عن طموحاتها ستكون بالقطع معادية للمشروع وأهدافه، ومن هذا تبلور تفضيلهم لوجود أنظمة الحكم التسلطى المغالية فى القُطرية فى المنطقة ما دامت تخدم مشروعهم. (2) ذكرت أن أصحاب المشروع يعلمون يقيناً أنهم لا يملكون إرادة شعوب المنطقة، بل إن مشروعهم يتناقض مع طموحات الشعوب المشروعة فى الحرية والعزة والكرامة، كما أن الطغاة الأفراد قد لا يوثق جانبهم، ولذلك، حكمة ودهاء، يعمل أصحاب المشروع على إقامة بنى مجتمعية تتسم بالقدرة على الدوام النسبى تناصر المشروع ولو على حساب قهر الناس وإفقارهم، بل ربما يكون نشر القهر والفقر مفيداً من حيث يضعفان الطاقة الثورية للشعوب، ولو مؤقتاً، ولكن مثل هذه البنى تحمل بذور انفجارها فى أحشائها، فتراكم المزيج السام من الفقر والقهر يفضى لا محالة إلى مخزون غضب وسخط يتحول بمرور الزمن إلى انفجار تمردى على بنى التسلط والقمع، كما حدث فى عموم المنطقة العربية فى نهايات العقد الأول من القرن الحالى. وقد كانت أداة المشروع الغربى- الصهيونى فى المنطقة العربية، وفى مصر خصوصاً، هى إقامة نسق اقتصاد سياسى تابع للمشروع وخاضع له، ويتوقف استمراره ونماؤه على خدمة المشروع والعمل على نيل غاياته. ويتكون نسق الاقتصاد السياسى هذا من شق سياسى يقوم على الحكم التسلطى الذى يقيّد حقوق وحريات المواطنين بالحكم الاستبدادى والبطش البوليسى إن اقتضى الأمر، ويستطيع من ثم فرض سياسات لا يرضى بها الشعب لمناصرة المشروع الصهيونى. ولشراء ضمائر الحكام يغدق عليهم أصحاب المشروع بالمعونات والقروض التى تمكن أصحاب المشروع من التحكم فى أدوات الحكم وفى الاقتصاد، ولكى تصبح هذه المعونات والقروض حبال شنق ذاتى إن حاول الحكم التابع التملص من تعهداته لأصحاب المشروع، ويكتمل النسق بنظام للاقتصاد الرأسمالى غير المنتج، التجارى فى الأساس، والتابع لمراكز النشاط الاقتصادى فى الغرب والمرحِّب بسيطرتها عليه، ولا مانع من أن يكون احتكارياً فاسداً، وهو ما لا يستقيم وكفاءة الرأسمالية ولا تسمح به الدول الغربية الرأسمالية فى عقر دارها أبداً، ومن مقومات نجاح نسق الاقتصاد السياسى هذا خلق شريحة رأسمالية (كومبرادور) تابعة لمراكز الاقتصاد الرأسمالى فى الغرب يتوقف ثراؤها وقدرها على رضا هذه المراكز عنها، وقد حدث هذا فى مصر بأموال المعونة الأمريكية المحسوبة على الشعب الطيب، فقد أغدقت منذ سبعينات القرن الماضى على رجال الأعمال قروضاً ميسرة شريطة استيراد سلع من الشركات الأمريكية لبيعها فى مصر، وهكذا خلقت الإدارة الأمريكية شريحة من المليونيرات المرتبطين بالاقتصاد الغربى عضوياً والذين تداخلوا مع عصبة الحكم وتمكنوا من الأسواق المصرية فى الوقت نفسه. ولكن يشيع هذا النظام البطالة والفقر بين المواطنين، مما يجعلهم فى نظر الحكام أسلس قياداً للحكم التسلطى وأسياده أصحاب المشروع بمزيج الفقر والقهر الذى يتوسلون به لإخماد حيويته السياسية، وكبت فرص الانقضاض على الحكم التسلطى والمشروع معاً. وبهذا يلقى نسق الاقتصاد السياسى هذا معارضة تتصاعد مع تراكم المظالم التى ينتجها بلا هوادة، ومن ثم، يُعنى أصحاب المشروع بتكوين قاعدة صلبة من التأييد له فى المنطقة العربية، خاصة فى مواجهة تمرد بعض بلدان المنطقة على المشروع وأغراضه، والمعاونة على تطويع تلك المتمردة إن تطلب الأمر، وقد تبلورت قاعدة الطابور الخامس للمشروع الصهيونى هذه فى عصر المد التحررى العربى من بلدان مجلس التعاون الخليجى بقيادة السعودية وإن لعبت قطر دور صانع الألعاب المتقدم، والغرض هو تطويع ثورات المد التحررى العربى الشعبية وضمان ألا تهدد أغراض المشروع الصهيونى، وعلى الأرجح من خلال تعميم نمط الحكم التسلطى المتسربل شكلاً بقشور الإسلام ولكن الخادم فى النهاية للمشروع الصهيونى، مثل ذلك القائم فعلاً فى تلك البلدان العربية الخليجية. (3) والآن لنُسقط هذا التحليل على حالة مصر منذ اندلاع الثورة الشعبية العظيمة فى يناير 2011، ولكن بإيجاز حتى لا يطول المقال كثيراً. فى المنطق السابق عرضه لا يمثل رأس النظام مكوناً جوهرياً من بنيته، فلا يعدو كونه مجرد قناع خارجى لبنى قانونية ومؤسسية. ولذلك فإن ما عُدّ انتصاراً أولياً للثورة بتنحية محمد حسنى مبارك، ولا أقول تنّحيه، لم يكن إلا نسق الاقتصاد السياسى الموصوف ينحّى قناعاً قد بُلى واستُهلك وربما أصبح مضراً للنسق ولأغراضه فى خدمة المشروع، ليضع قناعاً آخر أجدى ولو لفترة، واستعمال أقوى أدوات النظام القادرة على القهر العنيف، أى القوات المسلحة، للحفاظ على النظام إلى حين وضع قناع جديد. والواقع أنه خطأ فادح أن يفصل أحد بين نسق الاقتصاد السياسى الذى قامت الثورة لإسقاطه وذلك القائم الآن، النسق بقى تماماً كما كان، وإن اكتسى بعض القادة بزة عسكرية فى مرحلة ثم اكتست الوجوه لِحىً وأدوا الصلوات فى المساجد فى مواقيتها، وهذا هو مدى التزامهم بالإسلام، فقط ظاهرياً، تماماً كالأدوية شديدة السمية إن ابتلعت. وعلى من لا يصدق هذا التوصيف، أن يسأل نفسه إن كانت هناك أى فروق جوهرية بين أداء نظامى محمد حسنى ومحمد مرسى، ويقيناً لا أعتبر التمسح الشكلى والزائف بالإسلام العظيم فرقاً جوهرياً. لقد قام المجلس الأعلى للقوات المسلحة بمهمة إنهاك الثوار وعقابهم على الثورة، مع الحفاظ على نظام الاقتصاد السياسى الذى قامت الثورة لإسقاطه قائماً وعفياً، وقام التحالف بينه وبين تيار الإسلام السياسى، برعاية نائب الرئيس عند اندلاع الثورة لأغراض نفعية متبادلة، منها تفادى المجلس الصدام مع القوة الأكبر فى الشارع السياسى المصرى، والأهم استراتيجياً هو أن أيديولوجية التيار الحقيقية وشهوته للسلطة تجعله مؤهلاً بجدارة لتبنى نسق الاقتصاد السياسى الخادم للنسق وللمشروع كليهما. بعض وثائق التيار، مثل برنامج جماعة الإخوان قبل الثورة، كانت تؤكد تبنيهم الشق الاقتصادى للنسق، وعلى الجانب السياسى، كانت الإدارة الأمريكية قد تيقنت عبر اتصالاتها المباشرة بالتيار منذ 2003، أنه سيحمى إسرائيل لو وصل إلى الحكم، على الرغم من أن الإسلام السياسى كان يجهر بالعداء لأمريكا وإسرائيل لأغراض سياسية نفعية ووقتية، وفى انقلاب مواقف قادة التيار عن هذا العداء الزائف فى فترة ترقب السلطة ثم وهم فى السلطة، على صورة التأكيدات المتواترة والقاطعة على احترام معاهدة الصلح مع إسرائيل، الدليل الدامغ على هذا الزعم. وقد صدق تيار الإسلام السياسى وعوده للنسق والمشروع كليهما. بل بلغ الأمر بالإخوان المخادعين أن أرسلوا وفوداً خاصة إلى عاصمة الولاياتالمتحدة لتأكيد أنهم لو وصلوا للسلطة فسيمنعون أى استفتاء شعبى على اتفاقية كامب ديفيد إن طلبت ذلك قوى وطنية. إذن، تيار الإسلام السياسى بقيادة الإخوان المخادعين، قد اكتسب مصداقية لدى أصحاب المشروع فى شق الدور الإقليمى، وفى مجال الاقتصاد السياسى حافظوا على بنى النسق كاملة وإن سعوا لاستملاك مزاياه لرجالهم هم بدلاً من عصبة نظام الحكم الساقط. إلا أن مأساة الإخوان استراتيجياً والتى قد تحمل بذور هزيمتهم النهائية برفع غطاء المشروع عنهم هى أن انتماءهم التنظيمى يضعهم فى اصطفاف مع قوى مناوئة للمشروع مثل حركة حماس فى فلسطين يصنفها المشروع كحركات إرهابية، وقد تبين أن هذا الاصطفاف يمكن أن ينطوى على إضرار بالأمن القومى المصرى، ولن يقدروا على المناورة على حبال هذا التوتر طويلاً. وحتى إن نجحوا فى خداع أصحاب المشروع والمنطقة إلى حين، كما فعلوا فى العدوان الأخير على غزة حين ادعوا أن توسطهم لدى حماس لوقف إطلاق الصواريخ على إسرائيل بطلب من الولاياتالمتحدة، وهى الرسالة التى حمل فيها رئيس الوزراء سلطة الإسلام السياسى إلى حماس، كان نجاحاً فى مناصرة القضية الفلسطينية، حتى إن نجحوا فى هذا الخداع لن ينجو من عواقب نسق الاقتصاد السياسى المنتج للفقر والقهر على أيدى شعب مصر الذى طالما ما أوقع عبر تاريخه الممتد طغاة أشداء بسهولة تقارب السحر المباغت.