تراودنى كثيراً، أن أعود لمصر مثلاً مرة فى العام أقضى فيها ثلاثة أسابيع: أسبوعاً كاملاً فى روضة أطفال فى حى فقير، أعلمهم بعض الأناشيد والأغانى والألعاب التى تعلمتها وأنا صغير أو التى رأيتها هنا فى حضانات الأطفال فى فيينا. أعلمهم بعض قصار السور التى حفظتها فى الكُتّاب فى مصر، وأشرح لهم معانيها بشكل مبسط يناسب أعمارهم؛ أقرأ لهم بعض إصحاحات الإنجيل وأشرح لهم معانيها، وأعلمهم أنه ليس هناك دين أفضل من الآخر، بل هناك إيمان أفضل لا يستطيع أن يحكم عليه البشر. أن أعلمهم كيف يبتهجون بالموسيقى والرسم والرياضة وهم يتعلمون، وكيف يتعلمون أولاً الحروف والكلمات العربية لا الحروف والكلمات الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية. * أتمنى أن أزور مدرستى الابتدائية أسبوعاً. أن أعلمهم بالعربية أسماء الطيور والحيوانات والنباتات والأشجار الموجودة فى بيئتهم. أن أُحضِر لهم أفلاماً وثائقية وعلمية وصوراً تعليمية تعرّفهم ببيئتهم القريبة، وأخرى تُعرّفهم بالعالم البعيد وبالاكتشافات وبالكواكب والطبيعة من بحار ومحيطات وأنهار وصحارى وجليد وكواكب ونجوم. أن أعلمهم جمال الخط العربى والاهتمام بأقلام الكتابة واختيارها، وتوضيح الفروق بين العامية والفصحى مع تنبيههم لكيفية احترام لغتهم وتقدير لهجاتهم دون سخرية منها. أن أعمل حلقات تتبارى معاً للكشف عن القدرات الكامنة فى كل تلميذ سواء علمية أو فنية أو رياضية، وأن أجعل يوماً مفتوحاً فى العام للمدرسة ليزور أهل التلاميذ المدرسة للتعرف على حياتها وحياة أولادهم فيها وتوطيد علاقتهم بالمدرسين والمشاركة بآرائهم. أن نقوم برحلات تعرفهم على تاريخ مصر الفرعونى والقبطى والإسلامى مع شرح واف من متخصصين. أن أساهم فى استعادة وظيفة الأخصائى الاجتماعى للمدرسة ليحل مشاكل التلاميذ المدرسية وغير المدرسية لو أمكن. * أتمنى أن أزور المدرسة الإعدادية والثانوية، وأن أقضى فيها أسبوعاً محاوراً التلاميذ لمعرفة اتجاهاتهم وميولهم الحقيقية فى الدراسة المستقبلة، وما يودون أن يكونوا هم، لا ما يريد لهم الأهل أن يكونوا. أن أوجّههم بقراءات إضافية أوسع خارج المنهج، على أن تشمل هذه القراءات جزءاً من الامتحانات النهائية. * أتمنى أن أقضى أسبوعاً فى الجامعة. أن أذهب فى هذا الأسبوع مع الطلاب للمكتبة ونستعيد معاً قيمة الكتاب وهيبته؛ وأن أطلب منهم أبحاثاً تدريبية مرة فيما يحبون ومرة فيما أحدده لهم، وأعلمهم من خلالها طريقة البحث العلمى وإبداء الرأى فى المكتوب ونقده، وطريقة التوثيق السليم للبحوث العلمية، ومنهج استخدام معلومات شبكة «النت» بقدر يسهل ويثرى البحث والنقاش، وليس النقل المجانى السريع. * كل هذه الأمنيات الساذجة التى كتبتها أعلاه، هى مجرد أمنيات لى، لكن ليس بالضرورة أن أحققها أنا. ستثير بالقطع الضحك والسخرية والاستغراب واللامبالاة والتهكم والتعجب والابتسام لسذاجتها، وسيضحك منها كثيرون؛ وأولهم من درسوا بطريقة الفهلوة ونظام «مَشّى حالك»، ومن لا يؤمنون بقدرة الحضانة والمدرسة والجامعة على خلق العلماء والأفذاذ فى كل مجال، وربما سيضحك منها رئيس تحرير الجريدة ويتندر عليها زملائى القدامى وصديقاتى وأصدقائى الحاليين، وبعض ممن يجلسون على المقهى الآن ومن تركوا أعمالهم لثرثرات جانبية، وبعض ركاب المواصلات الذين أنعم عليهم الحظ بالجلوس الآن وباقتناء جريدة «الوطن»، وأخيراً عائلتى! أمنيتى الأخيرة: ألا يفكر الأهل دائماً فى أن يكون أولادهم دكاترة ومهندسين وطيارين وضباطاً فقط؛ فهناك عشرات المهن الأخرى التى لو احترمها المجتمع وقدّرها مادياً بما تستحق -وأولها مهنة المدرس- لاستطعنا تربية أذهان قوية مفيدة وليس عضلات قادرة على البلطجة ولا ذقوناً مبالِغة فى المظهرة! (فيينا، 3 أبريل 2013)