لا أدرى لماذا حين نتحاور بالعربية نقاطع ونعارض قبل أن يبدى المتحدث رأيه بوضوح. لا أدرى من أين للمُقاطع هذا اليقين بأنه يفهم ما لم يكتمل فى الحديث، وقد يجبر المتكلم على الدفاع عن أقوال لم يقلها؛ فيبدو الحوار عبثياً كأننا فى مصارعة، على المُقاطع أن يفوز بها حتى يستريح. * المقاطعة فى الحوارات باللغة الألمانية لا تحدث إلا فى حدودها الدنيا، ولعل السبب يرجع إلى أن الأفعال الألمانية -فى الجمل الشرطية مثلاً- تأتى فى نهاية الجملة، وبالتالى فإن المتحدث عليه أن ينصت للنهاية حتى يفهم المقصود من الكلام، بينما فى اللغة العربية يبدأ كثير من كلامنا بالأفعال، ولا ينتبه الأشخاص لبقية الجملة خصوصاً الزمن أو الحال أو الاستثناء أو بقية تركيبات الجملة، فالمهم هو: «ماذا فعل؟» و«من هو؟»، ليقاطع الشخص بمجرد سماع الفعل للدخول فيما يشبه المونولوج، باستعراض تجربته هو أو حكايات جانبية لأشخاص لا تعرفهم، لذا يرى من لا يعرف اللغة العربية أن العرب يتحدثون معاً فى الوقت نفسه ولا يعرف الغريب -الملاحظ لهذه الحالة- من يستمع لمن! الظاهرة المصاحبة للمقاطعة هى ارتفاع نبرة الصوت وحدّته لمستويين مزعجين، يضطر لسماعهما من لا علاقة لهم بتلك الجلسة، وكلما علا صوته شعر الشخص الزاعق بسطوته على الجميع. * فى مدارسنا قديماً، كنا نهاب المدرس المتسلط الذى يعذب طفولتنا بواجبات مضنية، ثم يعاقب على الأخطاء أو السهو عقاباً نفسياً قاسياً بالتوبيخ، وبدنياً بما هو أشد. صديقى صلاح صاحب الجسم الرقيق ضربه المدرس فى المدرسة الإعدادية بعصا مقشة غليظة فانكسرت ذراعه. أتذكر القلق الذى أصاب ناظر المدرسة والمدرس المجرم، ومحاولاتهما لاسترضاء الوالدين حتى لا يحررا محضراً فى الشرطة، بدلاً من أن يكون ناظر المدرسة هو المبادر بعقاب المدرس بل وفصله من مجال التعليم. علمونا أن نهاب المدرس القاسى وأن نهمل مع المدرس الطيب الذى يعاملنا بأسلوب رقيق ولا يضرب ولا يقرع، حتى أصبحت كلمة «طيب» تحمل معنى يبدأ من التساهل حتى يصل لدرجة السذاجة والعبط. حين كبرنا أدركنا أن هذا المدرس الطيب هو من نتذكره بكل تقدير ونكنّ له المحبة. * يبدو لى أن هذه الصياغة النفسية التى رسخت فى أعماقنا، صورة الشخص المتشدد والعادى، على مر سنوات طويلة، لا يمكن التخلص منها بسهولة؛ فالناس ما زالت فى العموم تبجل المتسلط ولو تزلفاً وتحكى عنه بهيبة. ربما أحد الأسباب التى ساعدت على ذلك هو النشأة فى مجتمعات عسكرية وبوليسية الطابع خلقت تراتباً فى المناصب نَشَعَ على الحياة المدنية بشكل خفى، حتى صار الناس يتعاملون مع بعضهم البعض كأنهم فى معسكر، وتصبح المحاكاة تدريجياً لصاحب الصوت الأعلى، فيقتنص لنفسه الأولوية فى أى حوار، ويفرض رأيه ويقاطع ويهاجم، ويشعر دائماً أنه على حق وعليه ألا يخسر «معركة الحوار» مهما حدث. * كما يبدو لى أيضاً أن هذه الصياغة النفسية التى رسخت فى أعماقنا على مر سنوات طويلة، تنضم إليها الآن سطوة الصوت الدينى العالى المتعالى فى عالمنا العربى تحديداً، الذى يُخرس أصوات أى رأى مخالف، بحجة القداسة ووجوب الانصياع، فلا تجوز المقاطعة، أما المخالفة الصريحة فسيكون حسابها عسيراً. ويتحول الحديث إلى اتجاه واحد: أن يسأل السائل العادى ويستفتى، وأن يستمع للرد والفتوى وينفذ، ولا يمكن بعدها محاورة هذا «المفتى الجديد»، لأنه أيضاً قد أصبح مجيّشاً بجيش سيُخرس أى انتقاد، جيش من الآلاف يهدد الرأى المخالف بالقمع والتنكيل والضرب وحتى حلّ الدم باعتبار الرأى الآخر خروجاً من الإيمان! (فيينا، 28-3-2013)