امتزج حزنها العميق على فراق أقرب الأصدقاء وأعزهم على القلب بحزن من نوع آخر لم تعهده قبل فجيعتها بفراق ناهد.. وكأن هذا الفراق الموجع الأليم قد أيقظها على حقيقة كانت غائبة عنها.. أو ربما.. لم تكن هى تلتفت إليها أو توليها اهتماماً.. وهى أن الموت ليس له كبير كما يقولون، وأنه لا يعير عدد السنوات أدنى اهتمام.. نعم غيب سائق أرعن ناهد بسيارته الفارهة ورأسه الفارغة، ولكن النتيجة التى يستحيل تجاهلها، هى أن ناهد غابت إلى آخر العمر.. وأن «آخر العمر» لم يعد متوقعاً أو محتملاً حسب السن.. تدفّقت الحبات الساخنة من قلبها إلى عينيها وخاطر اللحاق بناهد يطبق على رئتيها.. يداهمها فى اليقظة والمنام، وهى ترى نفسها داخل تابوت فى اليوم التالى.. أو الأسبوع التالى.. أو ربما فى الشهر أو حتى العام الذى قد يأتى عليها بعد رحيل ناهد.. تبخر إذن حلمها بأن عشرات السنين تفصل بينها وبين الرحلة الأخيرة.. لم تفكر من قبل فى الموت أو ماهيته.. لكن الفجيعة الأخيرة نقلتها إلى مرحلة أخرى من التفكير.. إلى عالم لم يسبق أن فكرت فى مجرد وجوده.. أدركت، عبر الألم والدموع مع وداع ناهد، أن الموت حقيقة ثابتة وأنه قادم لا محالة، طال الزمن أم قصر، وإن بقى السؤال.. متى؟.. أصبحت تولى اهتماماً شديداً بعمر المغادرين.. فإذا كان فى السبعين مثلاً، فالباقى من الزمن هو الفرق بين سن الراحل وسنوات عمرها.. كانت تعيش وجدانياً حالات الوفاة التى تقرأ عنها أو تسمعها أو تعيشها، فيداهمها الاكتئاب بدرجة تتساوى مع الحالة الماثلة.. فيكون اكتئاباً عابراً للحظات معدودة.. أو ساعات.. أو أيام.. أخذ الموت إذن حيزاً محورياً فى حياتها بعد فراق صديقة العمر.. وعندما احتفلت وسط أسرتها وأصدقائها بعيد ميلادها الخامس والستين، كانت تطرب آذانها الدعوات بطول العمر، دون أن تتأمل أو تتساءل عن فائدة طول العمر وجدواه أو عما ينتظرها بعد هذا العمر إن هو طال مثلاً.. كل هذا لا يهم.. المهم الآن أن ترفع رجاءها إلى الخالق بأن يلبى دعوتهم وقلبها يتمتم: «ربنا يسمع منكم».. فى هذا اليوم وبعدما اختلت بنفسها عقب انصراف الجميع، مكررين الدعوات بطول العمر، واستغراق شريك حياتها فى النوم، ربما هرباً من أسئلتها الغريبة عن الموت.. وسنينه.. هرعت إلى حزمة الصحف التى درجت على قراءتها مساءً، وقبل النوم منذ خروجها على المعاش وليس فور اليقظة كما دأبت طوال السنوات السابقة.. لقاؤها اليومى بالصحافة كان يبدأ بصفحة الوفيات أو أحياناً بالوقوع على نبأ مهم، يتصدر كل الجرائد، عن رحيل أكبر معمر فى العالم.. ياه.. رحل عن مائة وثلاثة عشر عاماً! معقولة؟.. هل يُعقل أن يكون الباقى من الزمن ثمانية وأربعين عاماً؟ تحول وجهها كله إلى ابتسامة وكأن هذا النبأ كان هدية السماء لها فى يوم ميلادها.. غمرتها فرحة تشبثت بها لتبقى معها.. وضعت الصحف جانباً.. سرحت بخيالها فى دروب حياة الراحل المعمر.. تُرى هل مارس مهنة قريبة من مهنتها؟ هل حمل عبء تربية نفس عدد أبنائها؟ وما بين هل التى تحيلها إلى.. هل أخرى.. أغمضت عينيها مستسلمة لسلطان النوم الذى قهر عنادها، وهى تحتضن هذا الخاطر المبهج. فى اليوم التالى.. جاء الأبناء إلى مسكنها بعدما أعيتهم سبل الاتصال بها دون رد، وبعد أن أكد لهم الوالد أنه لم يشأ إيقاظها قبل خروجه، اطمأنوا وهم يرصدون الابتسامة التى لم تفلح العيون المغمضة فى إخفائها.. ظل النداء ب«ماما» يتكرر دون أدنى صدى.. تلبسهم الفزع وانتهى الأمر إلى الاستسلام إلى الحقيقة المرة.. إنه الصمت الأبدى.. ورغم هول اللحظة توجه كل منهم إلى الآخر بسؤال لم تنطق به الشفاه.. تُرى.. ما سر تلك الابتسامة النادرة؟!