تظهر القضبان باهتة، كخطوط قلم رصاص سهلة المحو، لا تقتصر القضبان على حملها للقطار فحسب، بل تسمح بمرور العابرين من السيارات والبشر، تنتشر فى أحياء مصر الجديدة المختلفة، كشرايين تضخ الدماء فى الشوارع لتسمح للركاب بالتمتع بعبق الماضى، وسهولة الوصول للمكان، بعيداً عن إشارات المرور التى تنتصب فى عرض الطرقات لتعرقل سيولة المرور. هنا يظهر المترو، فوق الأرض، بمزيج من الأخضر والبنى الباهتين، يشق الطريق غير عابئ بشىء، قطار فى الهيئة، لكنه يختلف عنه فى تميزه بالحنو على المسافرين، إذ يقف لكل من يشير إليه بيديه، ولا يدوس عابرين فى مزلقان. صوت زئيره القوى يعلن وجوده من على بعد. يحب الأهالى ركوبه، تلمساً لزمن غابر انطوى، لكنه ما زال أثراً جارياً، يذكر الجميع بالتاريخ الارستقراطى لمصر الجديدة. ينادونه حيناً بالترام، يرفض مرتادوه الاسم لتميز الإسكندرية به. ويحب آخرون مناداته ب«الزقزوقة» إذ أن سيره على القضبان يصنع صريراً ذا صوت مميز. «اللى يركب التروماى لازم يبقى صاحب مزاج ومش مستعجل» هكذا يقول سيد عبدالفتاح، البالغ من العمر تسعة وخمسين عاماً، يحب التجوال، التطلع إلى فتارين المحلات وواجهات العمارات هواية محببة إلى قلبه، كان العام تسعة وسبعين عاماً سعيداً بالنسبة إليه إذ أن هوايته المحببة تحققت بعمله ككمسارى فى مترو مصر الجديدة، لا يشغل باله بأن البعض ينظر إلى المهنة على كونها غير ضرورية، لكنه يرى عمله كشرطى المرور فى الطرق، يجعل العربات تمر فى أمان، وجوده قاطعاً التذاكر، صمام أمان للمترو الذى تقلص إلى عربتين فقط، تحتويان على كراسى جلدية وشبابيك مفتوحة على مصراعيها، تسر الناظرين بمشاهد بانورامية لمصر الجديدة. للتروماوى -كما يحلو للبعض تسميته- خطوط ثلاثة رئيسية يعبر منها: عبدالعزيز فهمى والنزهة والميرغنى. لا يقتصر نقل الراكبين على مصر الجديدة وأحيائها، بل يمتد ليصل إلى رمسيس، من أمام محطة باب الحديد سابقاً، السكة الحديد حالياً. يقول عم سيد، إن المضى قدماً فى شوارع مصر الجديدة أشبه بالنزهة لا العمل، إذ يلحظ فى كثير من الأحيان، شباباً يركبون المترو، رغبة منهم فى تغيير الجو، بتذكرة رخيصة، نصف جنيه فقط، تقيض للراكب مروراً بين شوارع عامرة بالحدائق الخضراء والمبانى البيضاء ذات الطابع التاريخى. لا يقبل عم سيد أن يشبه أحد ترام الإسكندرية، بمترو مصر الجديدة، يقول إن مترو مصر الجديدة هو الأجمل، وما خلاه نسخ لا تصل لرقيه ورقى راكبيه، يحكى بداية عمله فى الثمانينات، وقتما كانت الشوارع خالية إلا من بعض سيارات وأشخاص، وكانت مصر الجديدة حكراً على أبناء الذوات الراغبين فى العيش بعيداً عن صخب المدينة. أكثر ما يصيبه بالإحباط قلة حجم اللون الأخضر للنباتات فى مصر الجديدة، يقول إن العمران كالنيران، تلتهم كل أخضر وتنشر كل يابس. يرى أن الفترة التى بدأ المترو فى تراجع رونقه، كانت مطلع الألفية الجديدة، حيث بدأت السيارات تغزو مصر الجديدة، وقلصت عدد عربات المترو من أربعٍ إحداها للسيدات فقط، إلى عربتين فقط، لا يركبهما إلا نزر يسير مختلط، أغلبهم من طلبة المدارس الذين يقفزون من المترو هرباً منه لكيلا يقطعون تذاكرهم. يلقى عم سيد باللوم على تعويم المترو الذى جرى فى أوائل التسعينات، فبعد أن كان تابعاً لحى مصر الجديدة، أصبح تابعاً لهيئة النقل العام، فطاله ما يطول الهيئة من إهمال. يقول الكمسارى، إن مترو مصر الجديدة جعله يرى مصر، داخل حيز مستطيل، هنا السيدات العاملات، والرجال الكادحون والأطفال الأشقياء والفتيات المعتدات بأنفسهن، كلٌ يمر من أمام عينيه، هو الشاهد الذى يكتفى بالفرجة وقطع التذاكر، وفى أحيان أخرى يفتح حواراً -يكون سياسياً على الأرجح - مع الركاب، وقد يفضى الأمر إلى عقد صداقة تستمر حتى ينزل الراكب محطته المنتظرة. أخبار متعلقة: «مصر» التى كانت «جديدة» عمارات الحي الهادئ "علي كل لون"..هندي ومغربي وأوروبي بيت «جمال عبدالناصر»في منشية البكري.. حلم المتحف الذى لم يكتمل الكوربة.. واحة على الطراز البلجيكى الثورة فى زيارة خاصة ل«مصر الجديدة» والفضل ل«مرسى» "اللي بني الحي كان في الأصل بارون" فى رسالة ماجستير عن «الضاحية البعيدة»: سكانها يركبون العجل ويتنزهون فى «جروبى» و«أمفتريون» حديقة «الميرلاند» التى تحولت لأطلال تحتضن العشاق من «الشهبانو» إلى «الحسين بن طلال».. ميدان «تريومف» يتحدى الحكومة