من العتبة الخضراء إلى السكة الجديدة فى ثمانين عاما
*محمود خليل
محمود خليل نشرت جريدة اللطائف المصورة لصاحبها أسكندر مكاريوس فى عددها رقم 650 بتاريخ 25 يوليو سنة 1927 مقالا تحت عنوان "هلس" لكاتب يدعى حسنى يوسف.
تحدث فيه عن رحلته من العتبة الخضراء إلى السكة الجديدة وهى حاليا "شارع الغورية" .
ووصف تصرفات الشعب المصرى فى أيامه وكيف كان يتصرف ويتعامل بعضه مع بعض وكيف كانت حالة سيارات النقل "الأتوبيسات بمفهومنا الحالى". كما يصف كان يتعامل رجل البوليس أو الشرطة مع الباعة الجائلين وردود افعال هؤلاء الباعة.
حينما قرأت هذا المقال لم أجد اختلافا كثيرا بين ما شاهده وعايشه ووصفه منذ أكثر من ثمانين عاما وبين أحوالنا اليوم, حتى لظننت أن الأيام لا تمر ولا ساعة الزمن تدور فكل شىء لم يتغير سوى فى المسميات فقط فالتصرفات هى هى, ومشاكلنا هى هى, ومعاناتنا هى هى, والأتوبيسات هى هى؟؟؟!!
فهل سيأتى يوم ويكتب حفيدى بعد ثمانين عاما أخرى أن مصر لم تتغير طوال الثمانين عاما الماضية وأن كافة المشاكل هى هى لم تتغير ومعاناتنا هى هى لم تتغير أيضا؟!!
وهذا هو نص المقال:
هلس
سياحة فى مصر.. من العتبة الخضراء إلى السكة الجديدة
فى الساعة 6 من مساء الأمس غادرت منزلى واتجهت صوب العتبة الخضراء لأنى كنت على موعد مع صديقى عبده لنذهب معا إلى السكة الجديدة ومنها إلى مستعمرة اخواننا المغاربة.. وارد تونس, وفاس, ومكناس.. فى حى الفحامين حيث يبيعون نهارا (البلغ) الفاسى, .. والطرابيش المغربية ذات الأزرار الطويلة (الملوية), والتلفيعات, والكوفيات, والأحزمة, والأحرمة, وما يلبسه عرب الفيوم والشرقية الذين قيل فيهم:
رب قسمتها حظوظا علينا بنطلون لذا وزر لذاك لا لفضل ولا لنقص ولكن لك سر يحير الإدراك
نعم وددنا أن نذهب إلى المستعمرة مساء حيث يبيعون الشاى المغربى الأخضر اللذيذ.
وصلت العتبة وشرعت اتخطى تلك الثعابين الطويلة السوداء التى أطلقتها شركة الترامواى فى الأرض لتزحف عليها قطاراتها وأنا التفت أمامى وخلفى وعن يمينى ويسارى محاذرا أن يداهمنى قطار يكون سائقه فى حاجة ماسة إلى (تزييت) العجلات بدمى.
قطعت الميدان المذكور بالسلامة ولمحت صديقى عبده آتيا نحوى فمددت له يدى قائلا: - سعيدة يا واد - أهلا وسهلا - أظن أنك أتأخرت عن الميعاد نص ساعة؟
- وأنا راخر لأنى جيت دلوقتى بس. - بقى يعنى احنا الاتنين كدابين فى مواعيدنا؟ - عمرك اطول من عمرى كنت رايح أقول لك كده.
ضحك عبده وضحكت وقال: - ها عمل أيه أهى البلد دى علمتنا الكدب. - صحيح مافيش هنا واحد يقدر يضبط مواعيده. - حتى الأفرنج. - ماهم اتعدوا منا.. يالله بينا.
مشينا إلى موقف (تاكسيات سيد ياسين).. وعربات (سى سوارس) ومزاحمها (الصبان) وما لمحت أول سيارة حتى أردت أن (اتشعبط) بها ولكن عبده منعنى وقال لى:
الأحسن أن نركب (سوارس أو الصبان) لأن الراكب فى عرباتهما يكون مستريحا نوعا ما بعكس السيارات التى تحمل من الركاب أكثر مما تسع.. يقولون إنها معدة لركوب ستة عشر شخصا والحقيقة إنها تسع اثنى عشر بالعافية ولكن (أطعم الفم) هى التى جعلتها تتسع لستة عشر وسبعة أشخاص أخرين علاوة.
وفضلا عن تلك المضايقة ربما تعطل محركها فى الطريق فلا يكون حظ الركاب إلا قطع بقية المسافة (كعابى) وسط زحام شارع الموسكى. أو ربما داس أحد ابناء (الكيف) على حذاء شاب (جنتلمان) من الجالسين فيحتد (القطقوط) ويصيح قائلا:مدونة ابن مصر
- مش تحاسب يا جدع هو أنت أعمى.
فلا يكون جواب صاحبنا (الفتوة) إلا أن يصفع الشاب (كفا) على ( قفاه) فيجاوبه هذا برفصة شديدة ثم يتماسكان ويتجاذبان وأخيرا يتدحرجان فوق الركاب ووووو الخ.
وإن لم يحدث ذلك حدث ما هو أدهى وأمر وهو أن جناب السواق ربما كان قد تناول (منزول العصارى) وكانت (الحتة معتمة) فتهىء له أن يسير بسيارته بسرعة 70 كيلومترا فى الساعة فيصطدم بعربة أو بجدار أو يدخل بركابه فى احد حوانيت المانيفاتورة وعند ذلك يكون البكاء والصرير الأسنان.
تضايقت من تلك المحاضرة وقلت لعبده: - يعنى قصدك نركب سوارس؟ - لأ نركب الصبان علشان أنه وطنى. - الأمر أمرك.
اقتربنا من عربة صفراء اللون (باهتانة) محطمة مهشمة ذات مقاعد خشبية علتها الأقذار والأوساخ وأمتلأت أرضها بأعقاب السجائر وقصاصات الورق وغير ذلك من (القرف ووجع البطن) وإلى جانبها وقف رجل مهلهل الثياب (مبهدل) الخلقة ظهر شعر صدره الأسود الطويل.
وبرز من خروق قميصه (المزفت) الذى لبس فوقه (جاكتة) لا يمكن لك أن تميز لونها ولو كنت تحمل دبلوم أكبر مدرسة فنون جميلة فى العالم وهو ينادى بصوته (الحميرى) المنكر قائلا هذه الطقطوقة: - قرب ياجدع.. قرب يا جدع.. الحسين بتلاتة مليم.. قرب يا جدع!
صعد صديقى (أبو عبده) إلى تلك العربة وتعلقت بها وما كدت أضع قدمى اليمنى على سلمها حتى شعرت بيد تجذبنى من طرف معطفى.
فالتفت خلفى فوجدت رجلا أشقر الوجه احمر الشعر طويل القامة عريض الكتفين منتفخ البطن على جسمعه العظيم.. المشمخر.. بذلة لا لون لها ذات بنطلون (رقع) من فوق الركبة بقطعة من لون يختلف تماما عن لون القماش المصنوع منه البنطلون فقلت له:
- ليه بتشدنى كده يا جدع؟ - بس يا سيدنا البيه.. بدى أقولك أن العربية دى مش طالعة دلوقتى علشان الدور علينا احنا.
هنا علمت إن ذلك المخلوق السمج المعوج الخلقة هو (كمسارى عربة سوارس) فانتهرته وفى تلك اللحظة أقترب منه (كمسارى الصبان) بعد ان ناول بائع العرقسوس (النكلة) التى (طفح) بها منه ثم حدق الكمسارى الأشقر بنظرة حادة وراح يقول له (بهداوة وتقل):
- يا جدع أنته روح حدا عربيتك لحسن ألخبط لك كيان خلقتك فى المسا ده اللى باين إنه رايح يكون عليك زى الزفت المسيح.
قال ذلك ثم دفعنى بعنف إلى داخل العربة وهو يقول:
- اتفضل اقعد يا فندى فى العربية ولا تسألشى عن كلام المغفل ده.
جلست بجوار صديقى وهو يقول لى: - شايف يا عم الحاجات الحلوة انبسط وخد مذكرات زى ما أنت عاوز.
ضحكت من غلبى ورفعت بيدى ستار العربة (القذر) المنسدل على جانبها ونظرت إذا (بكمسارى) عربتنا و(كمسارى) عربة سوارس نازلين (ردح وشتم) ويظهر ان سائق عربتنا (خاف على كمساريه أن ينغلب) اشترك فى (الماتش) .
وأخيرا تناول (كرباجه) الطويل و(طرقع) به فى الهواء ونظر إلى (الكمسارى) الآخر وأقسم بالله ثلاثا إنه ممزق جلده (بكرباجه) إن لم يكف عن شتم (كمساريه).
امتلأت العربة بالركاب واشتد الزحام والسب والشتم مستمر بين (الكمساريين والعربجى) الجالس خلف صندوق (الزبالة) يتناول العشاء وهو (يمزمز) بين لقمة وأخرى بأن (يشتم كمسارى سوارس شتمة) وأخيرا تذمر أحد الركاب وهو معلم فراش فمد يده وجذب (الكمسارى بتاعنا) من ياقة جاكتته قائلا له:
- ما بزيادة بقى خناق العربية اتملت واحنا ورانا اشغالنا.
صعد (الكمسارى) إلى العربة وهو فى اشد حالات الغيظ من ذلك التطفل الذى قطع عليه لذة (الخناق) ونادى السائق فجمع هذا بقية (عيشه) فى منديله الأحمر الكبير وقفز إلى مقدمة العربة ثم ربط المنديل السابق الذكر بما فيه فى سقف العربة وتناول (كرباجه) ثم (لسوع البغلين المسكينين).
سارت بنا العربة وهى (تتطوح) وكأن الكمسارى لم يكتف بالركاب فجعل ينادى بأنشودته التى لا يفتأ يرددها طول الطريق:
- الحسين يا جدع.. قرب يا جدع.. بتلاتة مليم يا جدع.. فاحتدت امرأة (عجوز هتماء) كانت (محشورة) إلى جانبى (بالعافية) وقالت له: - هو أنته يابنى عاوز تحط الناس فوق بعضيها والا نايبتك أيه؟
فأجابها بحدة: - جتك نايبة على عمرك. - جاتنى نايبة على عمرى يا مجرم يابن الكلب. - أنا ابن كلب يا بنت ست آلاف كلب. - آه يادون.. شاهدين على ابن الكلب القبيح ده .
قالت ذلك ثم مدت يدها إلى رجلها اليمنى فانتزعت منها (فردة شبشب) ورعتها إلى أعلى ومشت إلى الكمسارى ونزلت على وجهه ضربا بها فما كان منه إلا أن أمسك بملابسها فانحلت (ملايتها) وعثرت رجلها بها فوقعت فوق أرجل الركاب فقام جماعة منهم وانتصروا للمرأة فما كان من الكمسارى إلا أن (لطش) أحد المنتصرين (بوكسا) فى وجهه (خرشمه) وسال الدم من أنفه.
وكانت العربة قد وصلت بنا إلى السكة الجديدة أمام (مفرق) الصاغة والغورية فوقفت واشترك السائق فى المعركة (ودار) (الضرب) فى (المليان) فقفز بعض الركاب المسالمين عملا بالمثل المصرى: (دع الخلق للخالق) وكنت أنا وصديقى منهم.
فنظرت يمنة ويسرة باحثا عن رجل البوليس وأخيرا لمحته (على حدود الشوف) وهو مشغول بمطاردة باعة الجوافة والعنب فاشرت إليه وناديته مرارا وتكرارا إلى أن تنبه لى .
واقترب منى بتقل رجال البوليس المعروف فأشرت له حيث المعركة فأصلح هندامه واتجه إليها وكانت قد انتهت (على خير) وعملت كلمة (معليش) مفعولها الغريب العجيب .
فقد (باس) الكمسارى رأس المرأة فعفت عنه وصافح (المتخرشم) فسامحه ورجع (العربجى) إلى مكانه فجذب (سرع بغليه) فمشيا وعاد رجل البوليس إلى باعته يطاردهم ويحاورونه ويحاورهم واتجهت أنا وصديقى إلى حى الفحامين لنشرب الشاى المغربى فى قهوة الحاج قدور بن سى صلاح...
حسنى يوسف
* صحفي مصري سكرتير تحرير جريدة الأحرار المصرية [email protected] www.abnmasr.maktoobblog.com