ومصر تحتفل بذكرى نصر أكتوبر، لا بد أن نتوقف عند هذه المحطة الحاسمة التى سجّلت واحدة من أهم الحروب التى وحّدت العرب، وأعادت إليهم الأرض والكرامة، واستطاعت أن تقفز بهم إلى المرتبة السادسة، على مستوى العالم، من حيث القوة والأهمية، بعدما فاجأت مصر العالم بشنّها الحرب على إسرائيل، وما تلقته بعدها من دعم ودور عربى لا يقل أهمية عن دور الجنود المصريين البواسل، الذين وهبوا حياتهم فداءً للوطن، واستطاعوا اجتياز خط بارليف المنيع، وتحطيم أسطورة الجيش الإسرائيلى الذى لا يُقهر. ونحن نذكر انتصار أكتوبر، الذى هو فى الحقيقة انتصار لكل العرب، فنحن نتذكّر حين قام الرئيس أنور السادات، فى أحد أيام شهر أغسطس 1973 بزيارة سرية إلى العاصمة السعودية الرياض، والتقى مع الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود، الذى كشف له «السادات» عن قرار الحرب على إسرائيل، دون ذكر موعدها، مكتفياً بالقول إنها قريبة، وقد طلب «السادات» خلال اللقاء أن تقوم السعودية ودول الخليج بوقف ضخ البترول للغرب حال نجاح خطة الهجوم المصرية. وفى يوم 6 أكتوبر 1973، اقتحم الجيش المصرى فعلاً قناة السويس، فى الوقت الذى لم تتوانَ فيه كل الدول العربية من المغرب إلى الخليج، فى تقديم ما تستطيع من مساعدات، سواء كانت مادية، أو أسلحة، أو خبرات عسكرية لمصر والجبهة السورية. وفى 17 أكتوبر عقد وزراء النفط العرب اجتماعاً فى الكويت، تقرّر بموجبه خفض إنتاج النفط بواقع 5٪ شهرياً، ورفع أسعار النفط من جانب واحد. وفى 19 أكتوبر طلب الرئيس الأمريكى نيكسون من الكونجرس اعتماد 2.2 مليار دولار كمساعدات عاجلة لإسرائيل، ورداً على ذلك قامت السعودية والإمارات والجزائر والعراق وليبيا وسلطنة عمان ودول عربية أخرى بإعلان الحظر على الصادرات النفطية إلى أمريكا، مما خلق أزمة طاقة فى الولاياتالمتحدةالأمريكية. وقد كشفت وثيقة سرية مسرّبة من مكتب البحوث الاقتصادية فى المخابرات المركزية الأمريكية عن حجم التمويل الذى تلقته كل من مصر وسوريا، من الدول العربية منذ يوم 6 أكتوبر 1973 حتى 23 نوفمبر من العام نفسه، والذى يُقدّر بنحو 2 إلى 3 مليارات دولار. وبروح التلاحم والوحدة نجحت مصر والعرب فى تحقيق النصر التاريخى على العدو الإسرائيلى، واسترداد السيادة الكاملة على قناة السويس، واسترداد جميع الأراضى فى شبه جزيرة سيناء، واسترداد جزء من مرتفعات الجولان السورية. ملحمة عاشتها الأمة العربية خلال فترة حرب أكتوبر وانتصاراتها، وذكرى ستبقى فى وجداننا جميعاً نتوارثها جيلاً بعد جيل، مذكرين الأبناء بما فعله الآباء، الذين فى لحظة الحسم اتفقوا.. واتحدوا.. فانتصروا. أما اليوم، فقد تغيّر الواقع وتحولت الوحدة العربية إلى خلافات عربية، وانتقلت الحرب من حرب عربية - إسرائيلية إلى حرب عربية - عربية، ومن صراع وطنى يناضل من أجل التحرير، إلى صراع داخلى شرس حول السلطة وفق منطق التحكم أو الأيديولوجية والعصبية القبلية أو حلم عودة الخلافة المزعومة، وفق منطق القتل والتطرُّف وإنشاء الدولة الإسلامية. وما يزيد الأمر سوءاً هو هذا الضغط والابتزاز الذى يمارسه الغرب، وأمريكا تحديداً، على الدول العربية، مستغلة فى ذلك حالة الارتباك والضعف التى نمر بها، محاولة خلق قوى إقليمية جديدة، وفق ما يناسب مصالحها واستراتيجياتها. فبعد مصر والمغرب جاء الدور على السعودية التى تواجه قانوناً أطلق عليه «قانون العدالة ضد الإرهاب» (جاستا)، الذى سيخول لذوى ضحايا هجمات 2001، رفع دعاوى بحق السعودية، التى يقولون إنها دعمت بشكل مباشر أو غير مباشر المجموعة، منفذى هجمات 11 سبتمبر. إن ما تمر به السعودية اليوم يجعلنى أتساءل: كيف ستواجه المملكة، وإلى جانبها باقى الدول العربية، قانون «جاستا»؟ هذا القانون الذى نشتم فيه رائحة الابتزاز، والذى ربما يكون المستهدف منه اليوم السعودية، لكن بالتأكيد اللائحة سوف تطال دولاً عربية أخرى، ما دامت التهمة الجاهزة هى «الإرهاب» الذى جعلوه مقترناً بنا نحن العرب والمسلمين، متناسين إرهاب إسرائيل ضد الفلسطينيين، وإرهاب الغرب ضد شعوبنا، مرة باسم الحرية والديمقراطية، ومرة أخرى باسم إعادة الأمن والاستقرار، ومتجاهلين إرهاب من يبيع السلاح لمن يستخدم هذا السلاح من مختلف التنظيمات الإرهابية. لا بد أن نستحضر روح أكتوبر فى مختلف ما نمر به اليوم من محن. وسواء كنا متفقين أو مختلفين حول سياسات السعودية فى المنطقة، لكن لا يمكن إلا أن نكون ضد ما تتعرّض له اليوم من ابتزاز ومحاولات إضعاف. يجب أن نعترف أنه يوم انقسمنا، بين موافق ورافض لاحتلال العراق، ويوم تم إسقاط تمثال «صدام» أمام العالم، حيث برّر البعض هذا العدوان بكون «صدام» ديكتاتوراً حقّر شعبه واستغل ثروات بلده واعتدى على جيرانه، لم تكن النتيجة سوى أن سقطت بغداد وتشتت العراق، وتشتتت بعدها عواصم عربية أخرى. ولا تزال كرة الثلج تكبر وتأخذ فى طريقها المزيد، وهذه المرة ليس بماكينة الحرب، لكن بسوط الاقتصاد/ التعويضات. وإذا كان لا يزال للعرب ما يضغطون به، فيجب أن يتفقوا ويتحدوا، حتى ينتصروا، وحتى لا تصيبنا جميعاً ذات العدوى/ «جاستا» وأخواتها.