ونواصل رحلتنا مع المحلل النفسانى د. خليل فاضل، الذى طرحنا جميعاً على «شيزلونج» التحليل النفسى ليفكك كل ما فى نفوسنا وأنفاسنا إلى خيوط غير مرئية لكنها تكتشف وربما تفتح كل ما يداخلنا من طموحات مكتئبة وأحلام مجهضة ونزعات تتخطى الممكن إلى محاولة المستحيل، ذلك المستحيل الذى لا يأتى أبداً.. ويكشف لنا د. خليل عن أمر لم نسمع به وهو ندوة مغلقة لفريق سمّى نفسه «نفسانيون من أجل الثورة» (31-7-1) للتحاور حول الحالة النفسية للمصريين بعد الثورة. وقد حددوا قائمة بالمشكلات والموضوعات واجبة الدراسة، منها «الخوف، الإحباط، صورة الذات، الانتماء، الشائعات، اكتئاب ما بعد الثورة، انشقاق المؤسسات، الشكوك، الاتهامات، الخوف من الحرية.. إلخ». الحديث يستطيل لكننا نتوقف أمام حالات مستجدة منها «التوحش الشعبى» الذى أتى كرد فعل للقمع الطويل السابق للثورة، للمزاج الثورى الفائز، وللتوقعات العالية ثم الإحباطات المتراكمة التى تجلت فى احتجاجات فئوية صاخبة ومتجاوزة للحدود، أو قطع الطرق، وعنف وبلطجة واعتداء على المسئولين وشغب طائفى، والتى أن استمرت ستؤدى إلى فوضى هائلة لسقوط كل معايير الأدب والاحترام وتحطيم الثوابت الاجتماعية. ثم هو يأتى إلى ما سمّاه «ضعف التربية السياسية» فالناس اعتادوا على التهميش وأن السياسة تخص قلة من قمة السلطة وقيادات الأحزاب وهى بالضرورة نشاط نخبوى، وأن الانتخابات شكلية وإرادة الشعب لا تأثير لها، وأتت الحاجة لأناس أصبحوا يعرفون قول «نعم» أو «لا»، وتكوَّن لديهم عقل نقدى يعرف الحرية والعدل والمساواة والمواطنة والديمقراطية (ص72). ونطوى مضطرين صفحات عديدة رغم أهميتها الشديدة لكننا نتوقف أمام تحليل لفيلم «فبراير الأسود» فيقول «لا أحد مطمئن إلا الجهات السيادية ورجال العدالة والأمن أما أصحاب الثروة فهم يستطيعون أن يناموا مطمئنين، لا أحد يمسهم أو يفسد حياتهم، أما نحن أياً كنا علماء، دكاترة، مدرسين، فنحن مرشحون لأن نُضرب بالجزمة ولا قيمة لنا؛ فالوطن وطنهم ونحن لاجئون عندهم» (ص137). ونمضى؛ لضيق المساحة، لنجتاز صفحات بالغة الأهمية ولكن ليأذن القارئ أن أتوقف أمام تعريفات لألفاظ نعرفها ولا ندرك معناها الحقيقى مثل البلطجة، وتعريفها أنها «نمط من السلوك يشكل ثقافة مضادة، الصراع عنصرها الرئيسى، أن تحصل على منفعة خاصة على حساب التقاليد والعادات المجتمعية ويكون العنف أداة لفرض ثقافة جانحة. والبلطجى الجديد لا يحتاج لقوة بدنية إنما لفكر وأسلوب يسيطر به على الآخرين ويفرض رأيه بالقوة، ونمت الظاهرة لتمارَس بشكل جماعى محلياً ودولياً». أما الاغتصاب فهو ليس فعلاً جنسياً بحتاً، إنه استعراض القوة فى مجتمع فيه كل الصراعات». ثم يمضى د. خليل قائلاً «إن القماشة الاجتماعية المصرية فيها العديد من الخيوط والألوان وهى مركبة ومعقدة ومليئة بالعورات والأمور العصية على الفهم»، ثم يقول «المجتمع المصرى يقوده الحدث، كل أفعاله ردود فعل، لا يتحرك بشكل إيجابى ولا يرسخ نظماً أو دفاعات ولا منهجاً تسير عليه الأمة، ويقضى أغلب عمره فى الدفاع عن نفسه وتصحيح أخطائه وإصلاح مساره. فنحن نعاصر انتقالاً سريعاً للخلف، نتدهور، نحاول التماسك فتكون الخسائر مضاعفة. حركة المجتمع السريعة سواء إيجابية أو سلبية تترك خلفها رجالاً مشوهين ونساء منتهكات» (ص208). ولا أملك إلا أن أقول مهلاً يا دكتور خليل فكل هذا الاكتئاب كثير علينا ولعله حصيلة مؤقتة وجزئية لمرضى نفسيين فعلاً يتمددون أمامك على «الشيزلونج» ولسنا جميعاً مرضى نفسيين. ولعل د. خليل يعترف بذلك إذ يقول «حين دافع المصريون عن الهوية المصرية فى 30 يونيو ضد الإخوان فعلوها لأن الإخوان أكدوا بممارساتهم فى الحكم هواجس المصريين حول تبنى (المتأسلمين) خطاباً يمثل التناقض بين الدولة الوطنية وبين الإسلام، واعتبار الدولة الوطنية عدواً للدين الإسلامى»، ثم يقول معترفاً «فامتلأت العيادات النفسية بكل ألوان الطيف السياسى منذ 2012 وحتى 2015، وكان العنف والخوف والإحساس بعدم الأمان وما زالوا يرون المستقبل غامضاً» (ص219). وربما كان السبب كما يورده د. خليل «أن العملية الخدمية الحكومية ماشية بالبركة، ومع تراكم العاطلين والمسرّحين بسبب الخصخصة وبيع القطاع العام ومن ثم زيادة من هم تحت خط الفقر.. اختفت الطبقة الوسطى أو كادت مما أدى إلى اختلال فى نظام حياتها» (ص224). ويحدثنا د. فاضل عن حالة من التناقض العام. فمع زيادة مظاهر التدين فى المجتمع ومنها تكرار أداء مناسك الحج والعمرة والاهتمام بمظاهر التدين فى الملبس وفى استخدام الأشرطة الدينية فى المواصلات وزيادة المطبوعات والفضائيات الدينية فإن التصرفات الفردية وشبه الجماعية لا توحى عملياً بعمق التدين كتزايد العنف الفردى والجماعى وانتشار الرشوة وأساليب الغش والفساد والتحايل والتعصب ضد الآخر الدينى، أى القبطى، والعنف اللفظى والسلوكى، وإن كان يغطيها حديث مجامل فى المناسبات بينما يغيب الحوار المجتمعى الحقيقى». ويمضى قائلاً «إن الوعى الدينى الحقيقى حصاد للوعى الكلى، والتاريخ التأويلى ومركزه العقل، أما الوعى الدينى الزائف فهو أكثر اقتراباً من الوعى الفردى الآنى والمبنى على فهم نصى أداتى وهنا يبرز توظيف الدينى لغايات سياسية واقتصادية ولتحقيق مصالح للفئات التى تحوز القوة السياسية والاقتصادية ولحلفائهم والمستفيدين منهم بمن فيهم بعض رجال الدين وبعض المثقفين» (ص257). ويا عزيزى الدكتور.. كتابك مُلهم ورائع لكنه يغيظ من لا يريد أن يكتئب ويدفعه إلى مزيد من الغيظ فيحاول. ولك كل الشكر. وإلى مزيد من «البوح العظيم» فلم نزل نحتاج إلى فهم أنفسنا.