عندما تصنف التيارات الإسلامية فى مصر، يتم التركيز على «الإسلام السياسى»، الذى لم يعد مقصورا على «الإخوان المسلمين» إذ لحقت بهم مؤخرا قطاعات واسعة من «التيار السلفى». ومؤخرا فقط أيضا، أصبحت هناك رغبة فى الظهور من جانب «التيار الصوفى»، على خلاف بين المتابعين له هل هو كيان فاعل أم إنه لا يزال قابعا فى عزلته الاجتماعية ولا تعكس مساعيه الحثيثة للظهور وزنا سياسيا حقيقيا لقواعده، بل طموحا لقادته؟ ووسط ذلك الزحام، يأتى سؤالنا اليوم: أين التيار الذى يمثله الأزهر بوسطيته واعتداله ودوره الوطنى والعلمى؟ ونقصد هنا ب«التيار» الوجود الجماهيرى الواسع فى كل طبقات الشعب والمنظم بدرجة معقولة. ولن تكفينا هنا عبارات المجاملة المعتادة فى حق الأزهر، من قبيل أنه قائم ويمارس دوره، أو أن الدليل على وجوده هو «وثيقة الأزهر» الشهيرة، ذلك أن هذه الوثيقة فى رأينا لم تكن انعكاسا طبيعيا لحيوية فكرية متراكمة واجتهاد متطور فى الفكر السياسى الإسلامى نابع من الداخل، بقدر ما كانت «تسوية» سياسية مطلوبة واصلت من خلالها المؤسسة الدينية الرسمية دورها المعهود فى «إنقاذ الموقف» لصالح «الدولة»، واستعملت فى سبيل ذلك خليطا متنافرا من المصطلحات الإسلامية وغير الإسلامية لإرضاء جميع الأطراف! وبينما تهتم الأبحاث العلمية بما تسميه «المؤسسة الدينية الرسمية» وتدرج ضمنها الأزهر بكل مؤسساته (الذى يمتد تاريخه لأكثر من ألف سنة)، ووزارة الأوقاف (تأسست 1913)، ودار الإفتاء (تأسست 1895)، كما كنا نجد دائما فى (تقرير الحالة الدينية فى مصر) الصادر عن مركز الأهرام؛ نفتقد مثل ذلك التوجه من وسائل الإعلام، وربما كان السبب هو الأزهر نفسه. فعلى الرغم من أن القانون 103 لسنة 1961 يجعل شيخ الأزهر هو «الإمام الأكبر وصاحب الرأى فى كل ما يتصل بالشئون الدينية والمشتغلين بالقرآن وعلوم الإسلام، وله الرياسة والتوجيه فى كل ما يتصل بذلك... إلخ»، فإنه للأسف تضمن أيضا ما يمكن اعتباره «معاول» لهدم دور الأزهر التاريخى واستقلاله السياسى والمالى والعلمى، إذ نص على تعيين شيخ الأزهر من جانب رئيس الجمهورية وتم إلغاء هيئة كبار العلماء واستبدل بها مجمع البحوث الإسلامية، وتم الاستيلاء من قبل الدولة على أوقاف الأزهر وتفكيكه من مؤسسة دينية جامعة إلى عدة مؤسسات، وإغراقه فى تفاصيل إدارية خارجة عن اختصاصه بإنشاء كليات علمية تابعة له لم تزد فى النهاية عن أن تكون مجرد جامعة عادية جديدة لا علاقة لها بوظيفة الأزهر الأصلية فى الدعوة وعلوم الإسلام. ولا مجال لإنكار أن الأزهر فقد كثيرا من مصداقيته عبر مراحل متوالية من الانكفاء وإيثار السلامة من جانبه، ومن التهميش والتسييس والاستغلال من جانب السلطة، وإن كانت النخب لم تتخل عن تقديرها لدوره وتعويلها على استعادة وجوده وتأثيره. ولا شك أيضا أن إقبال قطاعات واسعة من الجماهير -ولاسيما فى الطبقتين الدنيا والمتوسطة- على رموز التيار السلفى لدرجة محاكاتهم فى ملابسهم وطريقة حديثهم، وحرص الملايين على فتح القنوات السلفية نهارا وليلا وتقبل كل ما يصدر عنها بلا مناقشة أو نقد أو رجوع لمرجعيات إسلامية أخرى»؛ هو أكبر دليل على أن ذلك حدث بسبب الفراغ الذى تركه غياب دور الأزهر. ولا شك أن الأزهر فى موقف لا يحسد عليه، فمن غير الإنصاف تحميله أوزار عهود طويلة مما تعرض له من تهميش وتسييس لتقليص دوره الاجتماعى واستغلاله لصالح سياسات ومصالح السلطة الحاكمة وحلفائها. وقد تابعت ما أعلنه مرشحو الرئاسة عن برامجهم، ونحن الآن على بعد أيام من تسمية رئيس جديد، فلم أجد اهتماما حقيقيا لدى أحد منهم لإعادة مجد الأزهر وإعادة استقلاله، ولم أجد سوى عبارات إنشائية دون تخطيط مؤسسى وتفصيلى، بما فى ذلك حتى المرشحين «الإسلاميين»! الأزهر لم يستشره أحد فيما مضى، ولا يستشيره الآن، إلا عندما تقع المصائب الكبرى فيلجأ الجميع إليه، وكل يريد مصلحته ولا يراه إلا فى صورة «فابريكة فتاوى مسيسة وجاهزة»! لكل ذلك، نقول أين نرى فى مصر التيار «الأزهرى» الذى يمكن إذا سطع نوره من جديد أن نقول لكل ما عداه: أطفئوا مصابيحكم فقد سطعت شمس الأزهر؟