يجلس القرفصاء، ممسكا بأوراق الكوتشينة، يبهر أعين أطفال صديقه وحبيبه وزعيمه «جمال عبدالناصر»، يحملقون فى يديه، على متن مركب يداعبهم، بدا الأمر لعبة غير أن البعض يقول إنه أسلوب حياة. محمد حسنين هيكل.. «الأستاذ» لقبه، تنهار الأنظمة ويبقى شامخا، يأبى على الصدع، لا تهزه ريح، المقدمة عهده، لذا يتصدر المشهد باقتدار، عايَش ثورتين، الأولى قاد سياستها، ودوّن تجْليتها فى كتاب «فلسفة الثورة» على لسان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، والثانية قال إنه تنبأ بحلولها «من أواخر أيام مبارك وأنا شايف إن الثورة جاية والسؤال اللى شغلنى.. هنعمل إيه؟». 3 ورقات قسمت تاريخ الكاتب الكبير بدأت من قبل ظهور عبدالناصر وواكبت حلوله رئيسا وزعيما للأمة العربية، فى مقال يمتدح العهد الملكى ويدعو له بدوام المُلك والصحة، ومع «ناصر» يدشن حقوق الفلاحين ويلعن الإقطاع، معه صارت صاحبة الجلالة سلطة أولى. فى مقتبل الثلاثينات صديقا لزعماء العالم، يجاريهم، صانع الأخبار بات صانعا لسياسة دولة، لذا يقول عن نفسه «عارف هيلمان السلطة كويس». الورقة الثانية كانت تُخط مع رحيل الزعيم، فبات برفقة خلفه، يرشده فيقول «إن عبدالناصر لم يمت»، يفكر السادات فى الإطاحة بالحرس القديم فيقدم العون طوعا.. حدث ذلك فى 20 أبريل عام 1971 برواية «الأستاذ» نفسه -حسبما جاء فى كتاب «الغباء السياسى» للكاتب الصحفى محمد توفيق- عندما ذهب ثلاثة من رجال عبدالناصر، هم: الفريق محمد فوزى وزير الحربية الأسبق، واللواء شعراوى جمعة وزير الداخلية الأسبق، وسامى شرف سكرتير الرئيس عبدالناصر، إلى جلسة «تحضير أرواح» لاستشارة الجن فى مستقبلهم السياسى. فتم تسجيل الجلسة. وما حدث فى 20 أبريل تكرر فى 4 مايو من العام نفسه، وتم تسجيله أيضاً، ويومها قام الرئيس السادات بإرسال التسجيلات فى منتصف الليل مع ابنته إلى الأستاذ هيكل؛ لينشر نص التسجيلات التى تدين رجال عبدالناصر فى جريدة «الأهرام»، لكن هيكل تردد فى نشرها، وذهب إلى المفكر الكبير توفيق الحكيم ليطلعه عليها. وقرأ الحكيم، ثم قال «لو أننى كتبت مثل هذا فى رواية لاتَّهمنى الناس بأننى شربت نهر الجنون إلى آخر قطرة». ثم شرد لدقيقة مع خواطره، وعاد يقول «إننى مع النشر.. إن أسبابك للنشر أقوى من أسبابك فى الامتناع عنه».. ليكون «هيكل» سببا فى تصفية رفاق الأمس. صار يدا يمنى لمن حاول جاهدا الإجهاز على أسطورة «الهرم الرابع»، فى 1 أكتوبر 1973 كتب الأستاذ هيكل التوجيه الاستراتيجى الصادر من الرئيس السادات إلى القائد العام للقوات المسلحة ووزير الحربية الفريق أول أحمد إسماعيل والذى تحددت به استراتيجية الحرب، بما فيها أهدافها، وترتب على هذا التوجيه تكليف مكتوب أيضاً ل«إسماعيل» ببدء العمليات، وقعه الرئيس السادات يوم 5 أكتوبر، وكتب للرئيس خطابه أمام مجلس الشعب بتاريخ 16 أكتوبر، وفيه أعلن السادات خطته لما بعد المعارك. وضعت الحرب أوزارها فجاء دور «هيكل»؛ ليقرر «بطل الحرب والسلام» الإطاحة به، مُصدرا قرارا نُشر فى كل الصحف صباح يوم السبت 2 فبراير 1974 بأن ينتقل الأستاذ هيكل من صحيفة «الأهرام» إلى قصر عابدين مستشارا لرئيس الجمهورية، فجاء الرد من شخص لا يُهزم، يصعُب هضمه، وقتها صرح لصحيفة «الصنداى تايمز» فى عددها الصادر يوم السبت 9 فبراير 1974 قائلا: «إننى استعملت حقى فى التعبير عن رأيى، ثم إن الرئيس السادات استعمل سلطته. وسلطة الرئيس قد تخول له أن يقول لى اترك الأهرام. ولكن هذه السلطة لا تخول له أن يحدد أين أذهب بعد ذلك. القرار الأول يملكه وحده.. والقرار الثانى أملكه وحدى»، لتبدأ معركة أفضت إلى وجود هيكل نفسه وراء قضبان سجون طرة فى سبتمبر 1981 مع كثيرين غيره، رحل السادات فرد «هيكل» التحية بأفضل منها، وقتما عكف على كتابه «خريف الغضب» ليشرّح رئيسا كان صديقا قبل سنوات فحولته السياسة إلى ألد الأعداء. الورقة الثالثة والأخيرة زامنت وصول مبارك لسدة الحكم، يستشيره فيفضل الابتعاد عن المشهد، يصفه بالبقرة الضاحكة، يحبذ ألا يُكمل اللعبة، مكتفيا بصاحبة الجلالة وكتبه «كنزه الاستراتيجى»، يقرر اعتزال الكتابة فى سبتمبر عام 2003، ويعود إليها فى 2011، فالثورة ألهمته، يطلق جملته التى صارت صكا يدونه التاريخ «مبارك لديه دكتوراه فى العند»، يرددها الثوار، يُسأل عن معلومات نثرها بشأن ثروة «المخلوع» فيرد فى إباء ممسكا بسيجاره الكوبى «مجرد معلومات من صحف أجنبية»، يهيمن العسكر فيأخذون مشورته، يهديهم فيرفضون -هكذا يحكى- تغيب أفق العسكرية وينتخب رئيس مدنى ويبقى هو لا يخشى السقوط، يتنبأ بالأحداث «سألت أمير قطر: عمرك سمعت عن حد اسمه اللواء السيسى.. قال لى لأ.. قلت له هتسمع قريب»، كلماته توزن بالذهب، تحليلاته تبقى أثيرة، لغزا حير الجميع، لا يزال شيخا للمهنة، رغم إشارة البعض إلى مهمته المستقاة من واقع الصورة.