السياسة إجابة عن أحد سؤالين: «من نحن؟» و«ماذا نريد؟» وعندما تسيطر الهوية أو الأيديولوجيا أو مركب منهما تكون إجابة عن السؤال الأول. فالناس عندئذ تتحزب وتصطف وتنتخب حسب أصولها الريفية أو القبلية أوالعشائرية أو الطائفية، وأحياناً المكانية، على قاعدة انتخاب «ابن الدايرة»! وقد تكون أيضاً فى هذه الحالة مردوداً مباشراً تبسيطياً للقناعات غير السياسية كالتصويت الدينى والأيديولوجى والمذهبى. وعندما تكون السياسة إجابة عن سؤال: ماذا نريد؟ فإن ممارستها تتم وفقاً للمصالح أولاً، بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى. والمنطلق الصحيح لممارسة السياسة أن تكون إجابة عن السؤالين معاً. ومن الحقائق المهمة هنا، ما يؤكده الفيلسوف الأمريكى جون ديوى بقوله إن: «الانفعالات والخيال أقوى أثراً من المعلومات ومن العقل فى تشكيل الرأى العام». وعليه فإن تخيلنا لأنفسنا أكثر تأثيراً فى صياغة المستقبل من حقيقة ما نحن عليه. ومما يعكس تخيلنا لأنفسنا عبارة تتكرر كثيراً هى: «إحنا ناس فلاحين»! والعبارة يرددها ريفيون وآخرون من أصول ريفية، وغالباً تكون فى معرض الفخر. العبارة التى تبدو بريئة ليست كذلك أبداً، إذ تعكس -صراحة- أن الفلاحين «حصرياً» أهل الأصول والأخلاق الرفيعة، وهو نوع من التعالى الطبقى على الفئات الاجتماعية الأخرى، ومؤكد أن معظمها أكثر ثقافة ووعياً من «السادة الفلاحين»، لكن الفلاحة أصبح لها مكانة أصولها غامضة وحدودها أكثر غموضاً! والفلاحة حسب هذا التعبير الافتتاحى ليست مهنة شأن كل المهن، فلا المهندس يقول: «إحنا ناس مهندسين» ولا الطبيب ولا المدرس.. وهى بالتالى تصبح «المصدر الرئيسى للتشريع» على غرار المادة الثانية! ولا معنى لأن تصبح مهنة مصدراً لمعرفة المقبول والممنوع والجائز.. إلى آخر مفاهيم «شريعة الفلاحين». وهذا الاعتزاز بالأصول الريفية يشمل أجيالاً انقطعت صلتهم تماما بالفلاحة، لكن كثيراً منهم ما زال يرفع الشعار. والوزن النسبى للزراعة فى اقتصادنا يقل، والوزن النسبى للفكرة يزيد! والمحزن أن هذا يترافق مع تحول مصر إلى «قرية صغيرة» لا على طريقة قاموس العولمة بل على طريقة «محمد أبوسويلم» المتشبث بالطين حتى النزيف. ومدننا كانت قبل 1952 أكثر مدينية، ولا تُستثنى القاهرة من الظاهرة، فمعظم سكان العشوائيات المحيطة بها ريفيون لا يزرعون. لقد كشفت دراسات «الشفاهية والكتابية» وجود صلة مودّة بين الكتابية وبين قبول الديمقراطية وإبداع العلم، وطبعاً مع الشفاهية لا مكان لا للديمقراطية ولا العلم، والارتباط بين الثقافتين الفلاحية والشفاهية لا يحتاج إلى بيان. والبحث الذى كشف هذه الحقائق أجرى فى روسيا فى 1932 ونشر فى 1974، وهو على الأرجح وسيلة للسيطرة على التغير الاجتماعى، وبالتالى السياسى، أى التحكم فى مستقبل الأمم عبر مساندة -أو إعاقة- تغييرات اجتماعية وثقافية معينة. و«البداوة» و«الريفية» تسبقان التمدن أو المدينية، وقد حذر الرسول (عليه الصلاة والسلام) من العودة إلى البداوة حتى ذكرها بين الكبائر السبع وهى: «الشرك بالله، وقتل النفس، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وقذف المحصنة، والتعرّب بعد الهجرة». (سلسلة الأحاديث الصحيحة للألبانى 2244)، ابن الأثير فى «كان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد». فهل ينطبق على «الترييف» ما ينطبق على التحذير النبوى من «البدونة»؟ والترييف منظومة مفاهيم ورموز وميول نفسية، أسوأها تقديس الأرض وترديد أن «الأرض عرض»، وجرائم الشرف، وكراهية الإجراءات، وقلة الاكتراث بالزمن، و«ثقافة الاعتزاز» (إنت عارف انت بتكلم مين؟) على حساب «ثقافة الإنجاز»، حيث معيار المكانة «أصل الإنسان» وليس ما هو قابل للكسب من النجاح والخلق الحسن. وفى المحصلة يُشيع «الترييف» روحا قدرية شاملة تبحث عن «الاستقرار» وليس التغيير، وسبب هذه القدرية أن دور الفلاح فى الزراعة دور سلبى حيث تتحول البذرة إلى ثمرة دون تدخل يُذكر منه. وسياسياً قطع الترييف مسيرة تأسيس «دولة المؤسسات» المرتبطة بحياة المدينة مقابل علاقات القرابة فى الريف، والثمرة مؤسسات تحكمها قيم قروية! وفى الصين نفذت السلطة بالفعل «مخططات» لخنق المدن بتجمعات ريفية الأصول ل«تذويب» التحول المدينى، لإدراكهم أن «المدينية» شرط للتحول الديمقراطى.. فهل فى مصر الآن عمل مخطط لإجهاض التحول الديمقراطى بالتحكم فى اختياراتنا الاجتماعية؟ وهل كانت نسبة ال50% عمال وفلاحين إجراء ثوريا لإنصاف مظلومين؟ أم كانت استدراجاً لطريق لا يمكن إلا أن يؤدى إلى التخلف؟!