يجامل البعض رؤساءه بتبرير كل ما يصدر عنهم فعلاً أو امتناعاً، قولاً أو سكوتاً؛ لأنه يظن أن الرئيس لا يخطئ، وأن وظيفة المرؤوس الدفاع عن رئيسه وحمايته فى مواجهة الآخرين. ومن ذلك ما تطوع به أحد مستشارى وزير الأوقاف لتبرير امتناعه عن الظهور مع إحدى المذيعات بأنه من باب الورع لوفرة المذيعين من الرجال، وعدم الضرورة الملجئة للتعامل مع المذيعات، خاصة أنه على رأس هرم الدعوة والدعاة وليس الإعلام أو السياحة. وهذا التبرير من باب الغلو فى الدين والمزايدة على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى خشيته لله وتقواه له، فضلاً عن التمايز فى تعامل ولاة الأمور مع النساء باختلاف نوع الوزارة، مما يجب على أئمة المسلمين وعامتهم رده وإنكاره، كما سبق بيانه. وقد يرى الرؤساء أن فى أمثال هؤلاء المجاملين على حساب الدين خطراً عليهم فى الدنيا والآخرة؛ لأنهم حصروا وظيفتهم فى تزيين الأعمال دون النصح، وقد قال تعالى: «وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ» (فصلت: 25). يقول ابن كثير: إن هؤلاء القرناء حسنوا لهم أعمالهم فى الماضى وفى المستقبل فلم يروا أنفسهم إلا محسنين، كما قال سبحانه: «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ» (الزخرف: 36). وأخرج مسلم عن تميم الدارى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «الدين النصيحة». قلنا: لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم». وإذا كان وزير الأوقاف على رأس الدعوة والدعاة فهو الأولى بالاقتداء بالنبى (صلى الله عليه وسلم) فى تعامله الرسمى مع المرأة وليس بالانسحاب من هذا التعامل وتصدير وزيرى الإعلام والسياحة له، وكأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أذن لهما ولم يأذن له. إن الوزير أحد الموظفين العموم الكبار، وهو يقوم بخدمة من الولاية العامة التى تتعلق بالرعية رجالاً ونساءً، فليس أمامه بد من التعامل الرسمى مع كل رعاياه، وهذا أحد وجوه العدل الذى أمر الله به فى قوله: «وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» (النساء: 58)، فإذا أغمط الوزير المرأة حقها المرعى فى ولايته فقد ظلمها، وأسقط عن نفسه صفة العدل بين الرعية، ولا يشفع له زعم مجامليه بوفرة المذيعين من الرجال؛ لأن العرف الإعلامى المستقر فى المجتمعات الإنسانية المسلمة وغيرها يجعل للمذيعات مثل الذى للمذيعين فى المهنة أو الوظيفة الإعلامية، ولا يضيق حق المذيعات بحال الضرورة التى يندر فيها العنصر الرجالى، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً عند الفقهاء، فكأن المخالف للشرط المعروف هو المضيع لحقوق المذيعات. وقد أورد ابن خلكان فى «وفيات الأعيان» أن جعفر البرمكى، وزير هارون الرشيد، كتب إلى أحد عماله: «لقد كثر شاكوك وقل شاكروك، فإما اعتدلت وإما اعتزلت». لا يزال الأمر فى حاجة إلى بيان سيرة النبى (صلى الله عليه وسلم) فى تعامله الرسمى مع المرأة فى المجتمع لمنع المغالين فى الدين. وللحديث بقية.