خطبة عصماء كحبّات عقد منتظم كل حرف فيها ينطق بالبلاغة ويصرخ بالبيان (لا يسع العقل إلا أن يركع لها فى محراب البيان)، من أسرها لك لا تكاد تملك أن تفارق حرفاًً فيها دون سماعه «فإما مناً بعد وإما فداء»، ألقاها المستشار أحمد رفعت رئيس المحكمة فى قضية عرفت إعلامياً بمحاكمة القرن، محاكمة مبارك ونجليه ووزير داخليته وستة لواءات من معاونيه استغرقت ست عشرة دقيقة وأربعين ثانية. اللافت فى الخطبة أنه بعد أن تحدث عن حالة البؤس والذل والفقر التى كان يعيشها هذا الشعب وبعد أن تحدث عن الفساد العريض الذى كان مستشريا وعن عفن العشوائيات الذى كان متجذراً فى المجتمع وعن فقد مصر لريادتها، وعندما توقعنا جميعا أن الحكم بالإعدام للمتهمين أمر لا مفر منه، جاء الحكم مخيباً للآمال، فالحكم زاد الأمهات اللاتى كن ينزفن دما بدل الدمع ألماً وحسرة فتوجعت قلوبهن وحارت عقولهن متسائلات: «هل ضاع دم أبنائنا هدراً؟!». فالقاضى مخول له أمران، منطوق الحكم وحيثياته، مما جعل هذا الحكم فيما أتصور حكما سياسيا أكثر منه حكما قضائيا، وأن النظام هو الذى كان يحاكم نفسه. وفى واقع الأمر إذا كانت المحكمة التى قضت بالحكم على مبارك ووزير داخليته بالمؤبد وبراءة نجليه وستة من معاونى وزير الداخلية فمَن المكلف بالتنفيذ هنا؟ ما هى يد حبيب العادلى لتنفيذ الأوامر؟ ما هى الآلة والأدوات التى يستخدمها العادلى فى تنفيذ أوامره؟ من الذى يتلقى الأوامر ويقوم بالتنفيذ؟ هذا يجعل الحكم مبتوراً ومشوهاً ويحمل براءة مبارك ووزير داخليته عند الطعن عليه، مما يتيح لصبيان القانون فضلا عن جهابذته أن يكتشفوا عوار هذا الحكم وما به من خلل أمام محكمة النقض، فهذا الحكم يحمل فى طياته أدلة بطلانه، كذلك فإن عدم قدرة النيابة العامة على تقديم الأدلة الدامغة القاطعة فى هذه القضية وإسنادها قضية إلى المحكمة قالت فيها إن أجهزة الدولة المختلفة لم تعطها المعلومات والمعطيات التى تساعد فى توصيف هذه القضية يجعلنا نتوقف كثيرا ونجزم بأن الأدلة الدامغة التى تدين المتهمين أخفيت عن عمد.. والسؤال: من الذى حجب الأدلة؟ ولماذا؟ ولصالح من؟! إننى أتصور أن النيابة العامة كانت مشغولة بتجهيز قضية لإدانة الثوار وارتكابهم جريمة كبرى فى حق الوطن وتهم قد تصل إلى التخابر لصالح جهات أجنبية، لأنه لم يكن يتخيل أحد أن مبارك سيتنحى ويتحقق ما كنا نحلم به جميعا وينتصر الثوار، فإذا بملفات القضية تتحول 180 درجة تماما فجاءت القضية فى توصيفها مهلهلة، نسيجها ممزق، غير مكتملة الأركان.. مما دفع رئيس المحكمة ليقول كلاما غاية فى الخطورة، أن هناك طمسا للأدلة، يا الله! من الذى طمس؟! ولصالح من؟! ومتى وكيف وأين؟! فكيف يحكم فى قضية أدلتها مطموسة غير مكتملة الأركان، ويفاجئنا جميعا بهذا الحكم القاتل للآمال؟ فالثوار كانوا معذورين عندما تقطعت أحبال أصواتهم نداءات «نريدها محاكمة ثورية استثنائية». ثم ما هذا الخلل الذى وقع إبان النطق بالحكم! ما هذا الانفصال فى حلقات القضية؟!كيف أحكم على الجسد وأعفى الذراع والأطراف وهى أدواتى التى استخدمها فى تنفيذ ما أريد. وكيف لا نجد طريقا لإدانة الرجل الذى ألهب بسوطه الكثير من الأبرياء (حسن عبدالرحمن) أحد جلادى النظام السابق. وقبل أن أنهى حديثى أود أن أوجه رسالة إلى كل الرموز الوطنية والقوى الثورية: عليكم بتوحيد الكلمة قبل توحيد الصف؛ «ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم»، فخذوا العبرة واستفيدوا من الدرس.