أعرف الكاتب، القاص والسيناريست الراحل أسامة أنور عكاشة، منذ أوائل ثمانينات القرن الماضى. كنت أستهل رحلتى فى عالم الصحافة، وكان الراحل العظيم يؤسس لدراما تليفزيونية جديدة، أقرب إلى روح وأدوات وبناء الرواية الأدبية. وفيما بعد، وبفضل أسامة أنور عكاشة، أصبح العمل الدرامى التليفزيونى يعرف ب«الرواية» وليس «المسلسل»، على الأقل بين العاملين فى هذا المجال. وقد لا يعرف المشاهد العادى أن «عكاشة» كان فى الأساس موظفاً فى وزارة الثقافة، وأنه قاص وروائى صدرت له روايات ومجموعات قصصية.. ربما لم تأخذ حقها من النقد والتقييم، لكن حنينه إلى الأدب المكتوب -بعد أن استولت عليه «فتنة الأدب المرئى»، وأصبح رائداً للدراما التليفزيونية- ظل يلاحقه حتى رحيله. كنت مفتوناً بأول تعارف بيننا: «الحب وأشياء أخرى». كنت صعلوكاً رومانسياً، مفعماً بمشاعر قومية، آتية من عشقى ل«جمال عبدالناصر» وانتمائى إليه: فكراً وزمناً وموضوعاً. أنا -بالمناسبة- من مواليد الوحدة مع سوريا، وكنت فى التاسعة من عمرى حين «انتكس» حلم عبدالناصر، وفى الثانية عشرة حين مات الاثنان: الحلم.. وعبدالناصر. لكن الأوتار كلها -الحب والمساواة والعدالة والكبرياء الوطنى- بقيت مشدودة، حتى فوجئت، وفوجئنا جميعاً، بمن يمسك بطرفيها: ممدوح عبدالعليم، وآثار الحكيم. شاب يشبهنى.. من طبقة عبدالناصر الوسطى.. تعلم فى مجانيته، وكان يظن أن الناس سواسية، لا فضل لغنى على فقير إلا بإنسانيته، أحب زميلته فى الجامعة وبادلته حباً بحب. لكن أباها -وقد أصبح واحداً من الأغنياء الجدد- وقف حائلاً دون اكتمال تجربة الحب!. وجعنى فشلهما وقلة حيلتهما، وأكثر ما وجعنى إدراكى للمرة الأولى أن انفتاح السادات هزم اشتراكية عبدالناصر. بحثت عن مؤلف هذا المسلسل بكل ما فى قلبى من ألم، وكل ما فى ذهنى من أسئلة. بحثت عنه وكلى لهفة وفضول وكأنه التقطنى من تيه. لم تكن هناك موبايلات ولا مواقع تواصل، لذا كان العثور على أسامة أنور عكاشة أشبه بالعثور على كنز. ذهبت إليه فى شقته القديمة قرب ميدان الجيزة. جلسنا فى غرفة وسط أكوام من الكتب. لم تكن فى الحقيقة غرفة، بل شرفة لا تتجاوز مساحتها أربعة أمتار مربعة، ومن ثم مقعد واحد، ومكتب صغير تعلوه أكواب مليئة بأقلام ملونة، و«رزم» ورق، و«عدة» تليفون أرضى: «هنا أكتب، وهنا أعيش، ومن هنا خرجت الإرهاصات الأولى لذلك العالم الموازى». وفى لقائنا الأول تعارفنا، تلميذاً وأستاذاً. تحدثنا فى أمور كثيرة، لكن ستينات عبدالناصر كانت المساحة الأكبر والأهم، حتى لم يبقَ ل«الحب وأشياء أخرى» سوى دقائق متناثرة، فتواعدنا على لقاء آخر لإجراء حوار حول المسلسل. بدأت تتخلق بينى وبين «أستاذى» تقاليد وطقوس، وبدأت لقاءاتنا تتكرر سواء كتب مسلسلات أو لم يكتب. كنت أذهب إليه فى منزله ل«أفهم» حيناً. ولأستمد منه طاقة أمل وتفاؤل حيناً آخر. وعندما انتقل إلى مسكنه الجديد فى «حدائق الأهرام» لم يتغير شىء سوى مساحة غرفة المكتب، وصورة لأسامة أنور عكاشة إلى جوار نجيب محفوظ.. ودلالة الصورة أوضح من أن تخفى على أحد: لقد أصبح «نجيب محفوظ التليفزيون»، ولم تكن «ليالى الحلمية» مجرد مسلسل من خمسة أجزاء، بل حيثية ل«نوبل» لا تقل ثقلاً واستحقاقاً عن «الثلاثية». كنت أذهب إلى أسامة، أثناء إذاعة كل جزء من «الليالى»، وطوال خمسة أعوام لم أكن أشعر -كغيرى من المصريين- أن شهر رمضان أتى.. إلا ب«حلمية» هنا.. و«هجان» هناك. الشوارع تكاد تخلو من المارة، لا فى مصر فقط.. بل فى غالبية الدول العربية. المقاهى شاخصة كأن زبائنها يلاحقون حدثاً جللاً، والصحف تفرد صفحاتها لكل شاردة وواردة فى تلك الملحمة. لم تكن الدراما ماراثوناً سخيفاً ومرهقاً كالذى نراه الآن، ولم يكن للشمامين والبلطجية والساقطات مكان أو حضور كهذا. كانت هناك فقط «ليالى الحلمية». كان هناك نجوم جبابرة، أصحبنا نعرفهم بأسماء شخوصهم الدرامية. تضاءلت أسماء الفخرانى والسعدنى وصفية أمام «سليم البدرى» و«سليمان غانم» و«نازك السلحدار». كان «النص» ساحراً، ما إن يمس ممثلاً أياً كان حجمه وتاريخه.. حتى يتحول إلى «نجم». لكن النجم الأكبر، النجم الذى يدور فى فلكه الجميع، هو أسامة أنور عكاشة. كان الناس يشاهدون «ليالى الحلمية» مرة واحدة، وكنت أشاهده محاوراً ومستبطناً مع المؤلف. أهاتفه قبل الإفطار: «أنا جاى النهارده يا أستاذ.. جهز القطايف». أشاهد الحلقة بصحبته ونحن صامتان، أتابعه وهو يشاهد «ورقه» الصامت يتحول إلى عالم صاخب، يموج بالأسئلة والصراعات والأفكار الصادمة و«النَفَس» الكوميدى المرهف. أتابعه باستمتاع وبرغبة جارفة فى التعلم والتدبر، وأحسد نفسى أننى فى حضرة الرجل الذى أسكت صخب الشهر الكريم، وجعل مصر، نخباً ومواطنين عاديين، تعيد تقييم فصل مهم وغامض ومغبون من تاريخها. كنت أذهب إلى أسامة أنور عكاشة وأنا أتصور أن «ليالى الحلمية» أوسع وأصعب من قدرتى على الحوار، فإذا ب«الليالى» نقطة فى بحر كاتبها، وإذا بالحوار يبتعد بالدراما ذهاباً وإياباً إلى متاهات الواقع.. ماضياً وحاضراً. لا أعرف إن كانت هذه الحوارات القديمة إضاءة لملحمة تليفزيونية نترحم عليها ولم تغب عن أذهاننا يوماً.. أم كانت إبحاراً فى «واقع» بالغ الثراء، نحنّ إلى ثوابته وقيمه وشعاراته!. كل ما أعرفه وأشعر به.. أنها حوارات لم تفقد قيمتها، لا لشىء إلا لأن مصر لم تعد «حلمية» ولم يعد لصخبها المبهج «ليالى».