في الصباح فتحت جريدة «الوفد» علي الصفحة الأخيرة كما تعودت أن أقرأ مقاله كل يوم جمعة فلم أعثر عليه.. بالطبع فإن أسامة قد توقف عن الكتابة في الأسابيع الثلاثة الماضية ولكنني قلت: لماذا لم تكتب إدارة الجريدة اعتذاراً للقراء.. أو تعيد نشر مقال قديم له؟.. مقالاته تصلح للقراءة أكثر من مرة.. لم أستسغ الفكرة الأخيرة لأننا تعودنا أن نفعلها مع الراحلين، نعيد نشر بعض مقالاتهم التي تتحدي الزمن.. فكرت أن أتصل بهشام- ابن أسامة أنور عكاشة- لأطمئن علي صحة أبيه ولكنني لم أشأ أن أثقل عليه، فقد اتصلت به بمجرد عودتي من «كان» قبل بضعة أيام وعلمت أنه انتقل إلي جهاز التنفس الصناعي ووعدني هشام بأن يبلغه تحياتي.. لم أكن ولا أدري لماذا أملك آمالاً عريضة في أن يعبر أسامة محنة المرض إلي شاطئ الحياة؟!.. كنت أعلم أن بداية الوداع له إرهاصات منها أن يرفض المريض الأنابيب الملحقة بجسده، وأسامة كما علمت في لحظات يقظته لم يكن يطيقها.. سألت «هشام» عن درجة إدراك الأستاذ أسامة لما يحيط حوله، فأجابني بأنه في لحظات استيقاظه يدرك كل شيء.. ولا أعرف لماذا دائماً أتمني أن يرحل الإنسان بكامل وعيه.. لا يهم أن يحتفظ بصحته الجسدية ولكن الإدراك هو الذي يعنيني رغم أننا عندما نعبر للعالم الآخر نذهب بحالة أخري مغايرة لمعاييرنا الأرضية، ولكنني لا أزال أري أن اللحظات الأخيرة ينبغي ألا نفقد فيها وعينا.. نودع الحياة ونحن نعلم أننا نودعها.. خبر رحيل «أسامة» كنت أعتقد أنه لن يفاجئني، ورغم ذلك ضبطت نفسي متشبثاً بالأمل في أن يقهر أسامة تلك الأزمة.. كانت حالته الصحية في السنوات الأخيرة تشي بالتدهور إلا أنه لم يفقد أبداً تواصله مع الناس عبر المسلسلات والمقالات.. كثيراً ما كنت أتابعه لأنه يملأ مساحات في الصحافة وكأنه قد ولد صحفياًَ وليس كاتباً درامياً وأطلب منه أن يترك لنا مساحة لكي نكتب فيها، ونتبادل القفشات عبر التليفون.. كنت أري أن طاقة الكاتب الدرامي ينبغي ألا يبددها في كتابة مقال تستنفد جزءاً من إبداعه، إلا أن أسامة كان حالة استثنائية بين كل الكتاب، فهو يتمتع بموهبة غزيرة متدفقة.. الطاقة لديه تفيض ولهذا يجد أمامه الصحافة ليفرغ فيها بعضاً مما تبقي لديه.. استطاع أسامة أن يتحول لأول مرة في الدراما التليفزيونية إلي أن يصبح هو الكاتب النجم.. المسلسلات تباع باسمه.. الدراما التي يقدمها تجاوزت خصوصية الكاتب لتتحول إلي دستور دائم للكُتاب.. 90% ممن بدأوا حرفة الكتابة بعد أسامة في ربع القرن الأخير قدموا تنويعات علي منهج أسامة في التناول الدرامي، لم يكن معلماً أو رائداً بقدر ما كان هو شيخ طريقة.. الحالة العكاشية في الدراما صارت هي عنوان الدراما المصرية بل العربية.. لم تكن البداية هي «الشهد والدموع» ولكنها هي التي أشارت إلي موهبته.. قال لي أسامة: إن طموحه لم يكن يتجاوز كتابة القصة الروائية حتي التقي مع المخرج فخر الدين صلاح الذي قال له: اقرأ هذا السيناريو واكتب علي منواله.. وبدأ كتابة الدراما التليفزيونية واكتشف أن هذا هو ملعبه الحقيقي.. وهكذا صار اسمه هو الأعلي سعراً والأكثر جاذبية للجمهور.. كان أسامة ينتقل من نجاح إلي نجاح أكبر من «الشهد والدموع» إلي «ليالي الحلمية» إلي «الحب وأشياء أخري» و«عصفور النار» و«أبو العلا البشري» و«حسن أرابيسك» و«الراية البيضا» و«زيزينيا».. اسم أسامة يحمل الدراما إلي آفاق عالية، ولم يرتكن أسامة إلي قيمة الاسم بل كان يشعر بأنه يدخل دائماً في سباق مع نفسه حتي جاءت «المصراوية»، ويومها تردد أنه سوف ينهي به مشواره.. أراد المسلسل في البداية خمسة أجزاء ولكنه اكتفي منه فقط بجزءين مع رفيق الرحلة إسماعيل عبدالحافظ. عاش «أسامة» زمناً كان فيه الكاتب والمخرج هما العنوان وذلك حتي نهاية التسعينيات ولكنه بعد ذلك انتقل إلي زمن صار الكل يخضع فيه لإرادة النجم، حتي الكبار صاروا ينتظرون رغبات النجوم لتتحول إلي أوامر ما عدا أسامة فلم أضبطه يوماً يكتب دراما لنجم، ولهذا ربما تكتشف بأنه مثلاً بعد «زيزينيا» و«لما التعلب فات» لم يكتب مسلسلاً بطولة يحيي الفخراني لأن العلاقة قد تغيرت تماماً بين النجم والدراما.. تغيرت 180 درجة عن زمن «ليالي الحلمية» تحفة وأيقونة الدراما التليفزيونية في العالم العربي.. كل شيء صار يتجه إلي النجوم حتي الأجور.. كان أسامة يقول لي إنه وإسماعيل عبدالحافظ مخرج «ليالي الحلمية» كانا يتقاضيان أجراً يزيد عما يتقاضاه نجوم الحلمية «الفخراني والسعدني وصفية» وبالطبع لم تكن الأجور في تلك السنوات تتعدي خانة المئات.. قفزت أجور النجوم وصار بعضها يصل إلي 8 ملايين، ورغم ذلك فإنه في آخر لقاء جمعني وجهاً لوجه مع أسامة وذلك في شهر أغسطس الماضي، كنا في لقاء علي الهواء بقناة O.T.V مع خالد صلاح ومي الشربيني وبرنامجهما «بلدنا» وكان معنا «جمال العدل» المنتج المعروف سألته- أقصد جمال ولم يكن أسامة حاضراً هذا السؤال الجانبي- هل لايزال أسامة هو الأعلي سعراً بين كتاب الدراما في الوطن العربي؟، أجابني: ليس فقط هو الأعلي سعراً ولكننا ننتج العمل الفني أيضاً باسمه وعندما أفاوض الشركات علي بيع عمل فني أقول لهم إن من بين أوراقي التي أفاوض بها اسم أسامة أنور عكاشة ويرتفع علي الفور سعر الفيلم، فهو الوحيد بين الكتاب الذي لا يزال اسمه يحتل مكانة نجوم البيع منافساً نجوم التمثيل!! أسامة لم يكن هو أول من كتب الدراما التليفزيونية في التليفزيون.. سبقه الكثيرون ولكنه كان هو أول كاتب درامي ينسب لاسمه العمل الفني.. نقول مسلسل «أسامة» مهما كان للنجوم بريق.. الرواية هي نجيب محفوظ والموسيقي محمد عبدالوهاب والدراما التليفزيونية هي ولاشك «أسامة أنور عكاشة».