«قبل عام 1948 كان أبى تاجراً ميسوراً متزوجاً من ثلاث نساء، واحدة فى صفد وأنجب منها أربعة أبناء، والثانية فى المجدل وأنجب منها خمسة أبناء، والثالثة فى القدس وأنجب منها خمسة أبناء، كان يتنقل بينهن بشكل دائم ويعيش وإياهن حياة طبيعية، إلى أن جاءت النكبة، لم يستطع يومذاك الوصول إلى أى منهن بسبب انقطاع الطرق وانتشار العصابات المسلحة التى نفذت العديد من المجازر، لجأت الأولى وعائلتها إلى لبنان، والثانية وعائلتها إلى مصر، أما الثالثة فقد توفيت بالسكتة القلبية جرّاء الحسرة التى انتابتها بعد فقدان بيتها، فأخذت كل أخت من أخواتها واحداً من أبنائها وربته مع أطفالها فى القدس». هكذا اختصر ناجى الناجى فى مجموعته القصصية «ترنيمة إلى الضفة الأخرى»، صدرت عن دار ابن رشد، الحسبة الفلسطينية المستعصية على فهم الغرباء، وهو يحكى ببساطة عن النكبة والنكسة، لا يعنى الآخر الفرق بينهما؛ ففى المرتين نحن مهزومون، لكننا نحرص على التفرقة بين اللفظين، حوّل «ناجى» المشهد الفلسطينى إلى حالة إبداعية بحكايات مشدودة إلى عصب الفرد فى مواجهة كوابيسه وأحلامه، شتاته ووضعه الإجبارى كلاجئ أو كنازح؛ كما فى صراعه مع ذاته والآخر، صنيع متكامل يمزج الحوار بمساحة متخيلة، ويقدم معطيات يخدمه الخيال فى إعادة رسم الصورة العامة وملامح الراهن القاسى، وهو أمر فى نظرى يُحَمّل «ناجى» ورفاقه من الكُتاب الفلسطينيين الكثير من المسئولية لإنجازات أدبية أكبر من التوصيف «الفلسطينى» الذى يختاره البعض تضامناً مع القضية أكثر من الإبداع، وهو ما وصفه محمود درويش ذات مرة قائلاً: أنقذونا من هذا الحب القاسى. وأظنه كان التحدى العظيم الذى واجهه «ناجى» حين كتب هذه المجموعة التى أرادها صوتاً لهواجسه يلتقط نبض الشارع والتحوّلات والتفاصيل الإنسانية والسياسية والاجتماعية التى تسحق الروح بأحداث متلاحقة، رافضاً أن يكون «فاصلة» فى تاريخ لا يلتفت إلى إنسانيته، لكنه حرص أيضاً على التنوع فى السرد ومواكبة الأساليب الحديثة فى جدل رهيف بين موضوع الحكى عنده والشكل الإبداعى الذى يقدمه من خلاله، رؤية إبداعية متأنية وعاطفية النزعة فى مواضع، وذات بُعد نفسى معنى بدواخل الشخصيات، ينفذ خلف المشاهد؛ لنرى ذلك الولد الذى يثير الغيظ ويقتحم الذاكرة متوغلاً فى الخوابى الفلسطينية كشوكة فى القلب، فيرشدنا إلى ملك «المحافظة» التى تخضع لمجتمعها الأسير؛ تعجن «الطابون» وتنغمس فى دراستها وتبتعد عن الأنشطة السياسية حتى يتغير مسارها عند حاجز تفتيش، ملمح آخر عن فلسطين التى يسعى وراءها الكاتب ك«عازف البزق» الغجرى: «وطنى هو هجرتى الأولى التى لن تعود ولا أملك وطناً سواها»، إذاً هى فلسطين التى تطلع إليها خلف جبلين حيث يسكن غموضاً عاشه منذ مهده، كما قال فى ترنيمته إلى الضفة الأخرى؛ مشدوداً بحضور الزمن فى تقلبه، وإلى حدس ينتاب الغريب المشتاق الذى تعثر فى المخيمات والمنافى، من لاجئ إلى نازح فى رحلة التيه؛ كما لمسناها فى القصة الموجعة «فى الطريق إليك» والتى قدمها من خلال رسائل حبيبين فى سرد غير انفعالى يرى الواقع كما هو عليه؛ مغطى بالحلم والخيال، بالسنوات المهدورة والسؤال الوجودى والمرارة، وكما طالعتنا أيضاً فى «نثار الأوركيد» و«طفل الصحف»، و«درج خلفى» فى تبويب وعناوين أبرزت سعة رؤية الكاتب ومشاهداته فى ثباتها وتحولها، ما عبر عن قلق يلبد بين السطور ويميّز خصوصية حكاياته البسيطة أكثر من اللازم والحقيقية أكثر من اللازم التى تفرد أشرعة الدهشة كأننا نتعرف على ما يحدث أو ما حدث لأول مرة، وهو ما أكده «ناجى» فى نهايات قصصه التى تشكل مدخلاً إلى إعادة طرح الأسئلة الملتبسة والمعقّدة فى النسيج الفلسطينى.