أثارت مشاهد هجوم العشرات على منزل سيدة مصرية مُسنّة فى قرية «الكرم» التابعة لمدينة «الفكرية» بمحافظة المنيا، وإخراجها من منزلها، ونزع ملابسها وتعريتها ثم «زفّها» فى شوارع القرية، حالة من الغضب الشديد، بل والسخط العام لدى القطاع الأكبر من المصريين، فمثل هذا المشهد غريب تماماً على الغالبية العظمى من المصريين، إذ كيف يجرى تجريد سيدة مُسنّة من ملابسها ودفعها فى شوارع القرية وهى شبه عارية وهى فى العقد السابع من العمر، مشاهد تقشعر لها الأبدان وتثير تساؤلات عديدة حول ما الذى أوصل قطاعاً من المصريين إلى هذه الدرجة من فقدان النخوة والاستقواء على امرأة مُسنّة.. إن المصريين، وتحديداً فى صعيد مصر، يتحدثون كثيراً عن الشرف، وهم مستعدون على الدوام لإراقة الدماء دفاعاً عما يعتقدون أنه يمس شرفهم، ولكن فى الوقت نفسه فإن الشرف قيمة عامة يُفترض أنها تخص كافة المواطنين، فما الذى أوصل قطاعاً من المصريين إلى انتهاك حرمة مواطنين لا ذنب لهم بل وانتهاك شرفهم؟ الإجابة، فى تقديرى، تحتاج لدراسة عميقة لما جرى فى مصر من تحولات بفعل تقلد السادات للسلطة عام 1971 خلفاً للرئيس الراحل جمال عبدالناصر.. فهذا الرجل، ورغم ما كان يتمتع به من رؤية ثاقبة على صعيد السياسة الخارجية، ارتكب جريمة فى حق مصر والمصريين ندفع ثمنها جميعاً حتى اليوم، وهى جريمة وضع أساس دولة دينية تخلط الدين بالسياسة من ناحية وتديين المجال العام من ناحية ثالثة ووضع أسس التمييز الدينى والطائفى فى مصر وتأطيره ليكون واقعاً ممارساً بغضّ النظر عما يقول الدستور والقانون. قام السادات بتلقف السياسة الإنجليزية التى تقوم على «فرّق تسُد» وحوّلها إلى «فرّق تحكم»، نشر الفكر الوهابى المتشدد، أعاد الإخوان من السعودية وسلّمهم عقول المصريين عبر تمكينهم من الانفراد بالعملية التعليمية من معلم ومنهج دراسى، كرّس ما كان قائماً من تمييز وتفرقة بين المصريين، أنشأ الجماعة الإسلامية وأمدّها بالمال والسلاح، نشر التطرف والتعصب فى المجتمع عبر وسائل الإعلام من صحافة وراديو وتليفزيون، والتى كانت فى عهده حكومية بالكامل، عمل على استمرار معدلات الجهل والأمية، وقادت سياسات الانفتاح الاقتصادى التى اتبعها إلى زيادة معدلات الفقر فى المجتمع، استمر فى عهده تهميش الصعيد بالكامل فواصل تصدُّره لمعدلات الفقر والجهل والمرض وبات المصدر الأول للعنف والممول الأول للجماعات المتطرفة بالأفكار والمقاتلين. فى بيئة هذه سماتها منطقى أن ينتشر التعصب والتطرف وأن يسود العنف حتى بين أبناء الدين الواحد، لكن ما يزيد من المأساة أن بيئة مثل هذه عادة ما تأتى على حساب الأضعف من بين ضعفاء والأفقر من بين فقراء، وإذا ترافقت الصفتان معاً، أى أن يكون طرف واحد هو الأضعف والأفقر، هنا توقع أن ترى مشاهد تنتمى للعصور الوسطى وما قبلها ولا صلة لها بالمدنية الحديثة، فما جرى فى قرية «الكرم» بمحافظة المنيا جريمة يندى لها جبين مصر ووصمة عار فى تاريخ بلادنا، ولا بد أن تبادر الدولة وتتعامل معها بالقانون لإرساء مبدأ دولة القانون والعدل إذا أرادت أن تمحو تلك الوصمة عن جبين الوطن، فلا مجال لمواصلة سياسات التواطؤ والتعمية، ولا عادت الأدوات التقليدية من جلسات صلح عرفية مقبولة، ولا مجال لتهريب المتهمين من الجريمة تحت ذرائع الحفاظ على السلم المجتمعى، فإذا أرادت الدولة محو آثار تلك الجريمة النكراء فعليها تطبيق القانون ومحاسبة المجرمين لوضع اللبنات الأولى لتسييد القانون المدنى فى صعيد مصر الذى تُرك نهباً للفقر والجهل والتخلف وساد بينهم العرف الذى يعكس واقعاً قائماً على التمييز والتطرف، فاستمرار العرف يعنى استمرار الاضطهاد والتمييز وتمكين المجرمين من الإفلات من الجريمة، والإبقاء على سياسات تولد مشاهد تنتمى للقرون الوسطى. فى تقديرى أن جريمة قرية «الكرم» هى اختبار حقيقى للدولة المصرية وإرادتها، وما إذا كانت ترغب فى بناء دولة القانون والعدل والتطلع نحو غد أفضل، أو إعادة إنتاج سياسات تقليدية تنتمى للقرون الوسطى.