جاءتنى ملهوفة سائلة: «ماذا أفعل الآن؟ إنه يقول إن الدرب فى السِّجر كالنَّكْش فى الهَجَر!». كانت أماً نمساوية من الأمهات الطيبات، تزوجت من عربى، وحاولت أن تتعلم لغته محبة له واقتراباً منه. لم تضحكنى لكنتها ولا نطقها للحروف الصعبة؛ فهذا أمر ألفته فى عملى منذ سنوات، كما أننى لم أتعود على التهكم ممن يجهد نفسه فى نطق لغتى الأم، على عكس من يجدها فرصة استهزاء أو سخرية مجانية، لا سيما ممن لم يجرب تعلم لغة أخرى غير لغته. الموضوع كان يخص طفليها الصغيرين، عندما رغبت أن تعلمهما لغة الأب، لكن بعد درس اليوم الأول عاد الطفلان مرتعبين من المدرس؛ المدرس الذى يجهل أبسط مبادئ التربية والتعليم، ولا يعرف عن الحياة النمساوية ولا النظم المدرسية إلا النزر اليسير. استاءت الأم وأصابها الإحباط لأنها جازفت بإرسال الولدين فى نهاية الأسبوع لدرس العربية، وهى نهاية أسبوع يقضيانها عادة فى اللعب والمرح والخروج وزيارة الأقارب. الأم انزعجت لأنها وجدت أن المدرس حوّل درس تعليم العربية لدرس دين، وبدأ يرعب الأطفال من أول يوم بجهنم وعذاب القبر ومصائب أكل لحم الخنزير وضرورة حفظ ما قاله عن ظهر قلب، وإلا سيضربهما بالعصا، ولما اشتكت لزوجها رد عليها بثقة: «الضرب فى الصغر كالنقش على الحجر»! فانزعجت منه أكثر. طمأنتها أنا قليلاً من هلعها بأن المثل يقول: «العلم فى الصغر كالنقش على الحجر»، وليس «الضرب». * فى النمسا يكره كثير من الأطفال العرب المولودين فيها تعلم اللغة العربية، سواء كانت لغة آبائهم أو أمهاتهم أو الاثنين معاً؛ فبالمقارنة بين حصص تعلم الألمانية التى تكون شائقة للغاية، سواء فى الحضانات أو فى المدرسة الابتدائية، من تعليم بالصور والرسم والموسيقى والألعاب والحكايات الشائقة؛ يأتى إليهم معلم من بلد بعيد وربما من قرية نائية، لم يرَ حتى فيها عاصمة بلده، ولا يكاد يحسن نطق جملة واحدة صحيحة بالألمانية، ليبدأ كالفزاعة فى ترهيب الصغار بمثل هذه الطريقة التى أرعبت الأم! حاولت مراراً فى اللقاءات والاجتماعات التى جمعتنى ببعض العرب المهتمين بتدريس العربية لأصحاب اللغة الألمانية، أن أشرح لهم وجهة نظرى وخبرتى مع النمساويين، بأنه ينبغى أن يكون فى تعليم العربية بعض التشويق والترغيب والإبداع، كى يتناسب ذلك مع المجتمع النمساوى ومع العصر، لكن كلامى يروح دون جدوى؛ يتحجج البعض بأنها لغة القرآن، لا أحد يمانع أنها لغة القرآن، وأنها من أجمل لغات الدنيا، وأنه لا بأس أن يتعلم الأطفال بعض قصار السور والأحاديث والقصص الدينية، بشكل يعتمد على الحكاية والتشويق بالشكل المناسب لأعمارهم، فنحن أيضاً تعلمنا الألمانية أو لغات أخرى دون أن نعتمد على الإنجيل أو أى كتاب دينى. * للأسف نخسر الكثير طوال الوقت من المحبين والمهتمين بثقافاتنا وعاداتنا وتقاليدنا، لأننا نحاول أن نعبُر إليهم فقط من الممر الدينى، الحوارات التى أستمع إليها ممن يأتون من الشرق تنحو فى معظمها إلى التركيز على قضيتى الحلال والحرام من منطق دينى أيضاً، لا يدركون أن الغرب يتفاهم بلغة أخرى مدنية تتحدث عن الممنوع والمسموح. * الأجيال -من أصل عربى- التى كرهت العربية بسبب مثل هذا المعلم غير المؤهل، متوافرة بغزارة وفى تزايد، بينما كثير من الصحف والقنوات الفضائية العربية تهلل للانتصار العظيم لمن تحول إلى الإسلام وسمى نفسه باسم إسلامى، بل تكاد تقدم له الهدايا على هدايته، بينما لا يكترثون بعشرات يحبون بلادنا بحق ويحترمون عاداتنا وتقاليدنا دون أن يغيروا ديانتهم! (فيينا، فى 10-1-2013)