الهجمة على الحريات فى ازدياد، فإلى جانب ما تتعرض له منظمات حقوق الإنسان من تضييق تأتى المطالبة بالتضييق على وسائل التواصل الاجتماعى، خاصة «فيس بوك»، عبر تضمين مواد تقيد حرية التعبير على الإنترنت ضمن قانون تنظيم الإعلام. شخصياً أحاول تجنب «فيس بوك»، وأرى ما فيه من مشكلات، لكنى لست خصماً له ولا أرى المنع والتقييد حلاً للمشكلات التى يثيرها. مقاومة «فيس بوك» وإخوته من وسائل التواصل الاجتماعى مآلها الفشل مثلها مثل كل محاولات تقييد تقدم العلم والتكنولوجيا، فهذا هو الدرس الأهم منذ قاوم عمال النسيج الإنجليز استعمال الأنوال الميكانيكية فى المصانع، مروراً بمقاومة السقايين لمد شبكات المياه فى القاهرة، انتهاءً بمقاومة سائقى الأجرة ل«أوبر وكريم» وأشباههما، فكل هذه ليست سوى محاولات يائسة قد تؤدى إلى إبطاء مسيرة التقدم لكنها أبداً لا توقفها. «فيس بوك» مثله مثل المطبعة؛ فكلاهما أشاع تداول المواد المكتوبة وسهل انتقال الأفكار من مؤلفيها إلى نطاق أوسع من القرّاء. النسّاخون والورّاقون قاوموا المطبعة خوفاً على أرزاقهم، تماماً كما يفعل بعض الصحفيين والكتاب اليوم، وقاومها أيضاً أصحاب السلطة الدنيوية والدينية خوفاً على سلطانهم وحرصاً على احتكارهم المعرفة والرأى دون عموم الناس. القضية، إذن، كانت وما زالت قضية مصالح اقتصادية وأخرى سياسية حتى لو سماها البعض قضية أمن قومى، كما لو كانت حماية الأمن القومى امتيازاً خاصاً بهم مع أن كل صلتهم بالأمن القومى لا تزيد عن صلاتهم بضباط الأمن، أما الأمن القومى نفسه فهو أكبر وأهم كثيراً من أن يترك فى أيدى سدنة الأمن، ولنتذكر أن هذا البلد كاد يضيع منا عدة مرات خلال الستين عاماً الماضية، وهى السنوات التى احتكر فيها الأمنيون إدارة شئون البلاد، ولا أظن أننا نسينا ما حدث لنا فى عام 1967 من هزيمة ما زال العالم العربى كله يدفع ثمنها إلى اليوم، ولا ما حدث لنا فى يناير 2011 وما تلاه من سنوات عجاف كاد فيها البلد أن ينجرف إلى مصير أفغانى-باكستانى، حتى استقرت أخيراً على سيناريو «شبه جزائرى» هو بالتأكيد أفضل من غيره، لكنه أبعد من أن يكون مصيراً نهائياً يستحق الاحتفال كمحطة نهائية ومصير أخير. أعود إلى «فيس بوك» والمطالبين بتقييده لأكرر الإقرار بالمشكلات التى تثيرها تلك المنصة العجيبة التى تتيح لعموم الناس الفرصة لتبادل الآراء والأفكار. نوعان من الناس استفادوا من «فيس بوك»: عموم الناس الذين أتتهم الفرصة لأول مرة للتعبير المكتوب عما يعن لهم، وبعض خواص الناس المحرومين بسبب قيود السياسة وفساد مؤسسات النشر والصحافة والتعبير عن الوصول بأصواتهم إلى جمهور أوسع، وبين الفريقين يقف فريق ثالث له من العوام أفكارهم وطرائق تعبيرهم، فيما له من الكثير من المتابعين والمحبين مما يجعله يبدو كما لو كان من الخواص وأهل النخبة المشهورين. العوام من الناس -بحكم التعريف- هم محدودو المعرفة والاطلاع، وأصحاب قدرة محدودة على التعبير، خاصة التعبير المكتوب، وليس لنا أن نتوقع منهم أكثر مما نراه بالفعل من ترهات وقبح لفظى نلاحظه فى تعليقاتهم المنشورة على الفيس بوك والإنترنت. فى الظروف العادية لمجتمع طبيعى لا يجب لمثل هذه التعليقات أن تثير مشكلة لأن أحداً من المعنيين بالأمر لا يجب أن يأخذها بجدية إلا كمؤشرات شديدة العمومية على المزاج السائد بين الناس. فى الفضاء الافتراضى وعلى الفيس بوك تجد أيضاً جماعات من المثقفين عالى الثقافة والذكاء حتى لو اختلفت معهم فى الأفكار والاختيارات السياسية. أتاح الإنترنت لهؤلاء فرصة لنشر أفكار لا تجد منابر للتعبير عنها خارج الفضاء الافتراضى. ما تقدمه هذه التيارات فيه إغناء للفكر والسياسة فى بلادنا، وبدلاً من أن ينزعج البعض لوجود هؤلاء على الإنترنت عليه أن ينزعج لأن مؤسسات الثقافة والسياسة فى بلادنا لا تفسح لهم مساحة مناسبة يعبرون فيها عن أنفسهم، فتحولوا من صوت إضافى يمكنه إثراء الحوار العام، إلى جماعات أقلوية شبه سرية، تعانى التهميش، وتزعم البطولة. جماعات الخواص من هذا النوع الموجود فى الفضاء الافتراضى لا يجب أن تخيف أحداً، فالمقلق ليس هو وجودهم هناك، ولكن المقلق فعلاً هو حصر وجودهم فى حدود الإنترنت والفيس بوك، وليس حيثما يجب أن يكونوا فى مؤسسات معترف بها لها منابرها وشرعيتها، أما أن يسعى البعض للتضييق عليهم حتى على الإنترنت فهذا هو الخطأ بعينه. التحدى الأكبر الموجود على الفيس بوك والإنترنت هو الفريق الثالث الذى يقف بين الفريقين السابقين، وهو فريق يفكر ويعبر بنفس الطريقة التى يفكر ويعبر بها العوام من الناس، لكن لديه من دقة الملاحظة وخفة الظل وحلاوة التعبير وحدة اللفظ ما أهّله لتزعم العوام، حتى إن بعض زعماء العوام المنتشرين على الإنترنت بات لهم من الشعبية والأتباع والتأثير أكثر مما لمؤسسات ورموز النخب المعترف بها، حتى كاد هؤلاء ينجحون فى طرح أنفسهم كنخب بديلة لها من الجدارة والمصداقية ما يزيد على النخب الرسمية وشبه الرسمية. الفيس بوك موجود ومسموح به فى أغلب بلاد الدنيا. هذه حقيقة لن تتغير إن اخترنا الالتحاق بالعدد الصغير من الدول التى تفرض القيود عليه. المشكلة الحقيقية ليست فيما نراه على الفيس بوك ولكن فيما يجرى خارجه. فعندما تعجز مؤسسات الثقافة والسياسة المعترف بها فى إنتاج خطاب راقٍ وذى مصداقية يتحول الفيس بوك وأمثاله إلى عفاريت تثير الفزع، وعندما يتهرب البعض من إصلاح المؤسسات الرسمية وخطابها، فيبشرنا بتقييد الفيس بوك والإنترنت بدلاً من معالجة أصل الداء الموجود فى المؤسسات المعطوبة وخطابها غير المقنع، فإننا نكون كمن لم يتعلم أى شىء من خبرة الستين عاماً الماضية.